الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***
الثَّانِيَ عَشَرَ: فِي التَّسَاهُلِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَخْرِمُ الضَّبْطَ. (وَرُدَّ) عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ (ذُو تَسَاهُلٍ فِي الْحَمْلِ) أَيِ: التَّحَمُّلِ لِلْحَدِيثِ وَسَمَاعِهِ (كَ) الْمُتَحَمِّلِ حَالَ (النَّوْمِ) الْكَثِيرِ الْوَاقِعِ مِنْهُ أَوْ مِنْ شَيْخِهِ، مَعَ عَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَقْبَلُوا رِوَايَتَهُ. وَمَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ قَبُولِ الْإِمَامِ الثِّقَةِ الْحُجَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ مَعَ وَصْفِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرِهِ لَهُ بِأَنَّهُ كَانَ رَدِيءَ الْأَخْذِ. وَقَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: إِنَّهُ رَآهُ وَأَخُوهُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحُفَّاظِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي حَالِ كَوْنِهِ يُقْرَأُ لَهُ عَلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَإِنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِلْقَارِئِ: أَنْتَ تَقْرَأُ وَصَاحِبُكَ نَائِمٌ، فَضَحِكَ ابْنُ عُيَيْنَةَ. قَالَ عُثْمَانُ: فَتَرَكْنَا ابْنَ وَهْبٍ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَقِيلَ لَهُ: وَلِهَذَا تَرَكْتُمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتُرِيدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَا؟ رَوَاهُ الْخَطِيبُ. فَلِكَوْنِهِ فِي ذَلِكَ مَاشِيًا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ بَلَدِهِ فِي تَجْوِيزِ الْإِجَازَةِ، وَأَنْ يُقَالَ فِيهَا: حَدَّثَنِي، بَلْ قَالَ أَحْمَدُ: إِنَّهُ كَانَ صَحِيحَ الْحَدِيثِ، يَفْصِلُ السَّمَاعَ مِنَ الْعَرْضِ، وَالْحَدِيثَ مِنَ الْحَدِيثِ، مَا أَصَحَّ حَدِيثَهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ كَانَ يُسِيءُ الْأَخْذَ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ، وَلَكِنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ مَشَايِخِهِ وَجَدْتَهُ صَحِيحًا. ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَضُرُّ فِي كُلِّ مِنَ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ النُّعَاسُ الْخَفِيفُ الَّذِي لَا يَخْتَلُّ مَعَهُ فَهْمُ الْكَلَامِ، لَا سِيَّمَا مِنَ الْفَطِنِ، فَقَدْ كَانَ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ رُبَّمَا يَنْعَسُ فِي حَالِ إِسْمَاعِهِ، وَيَغْلَطُ الْقَارِئُ أَوْ يَزِلُّ فَيُبَادِرُ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ، وَكَذَا شَاهَدْتُ شَيْخَنَا غَيْرَ مَرَّةٍ، بَلْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ يُقْرِئُ شَرْحَ أَلْفِيَّةِ النَّحْوِ لِابْنِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ نَاعِسٌ. وَمَا يُوجَدُ فِي الطِّبَاقِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى نُعَاسِ السَّامِعِ أَوِ الْمُسْمِعِ لَعَلَّهُ فِيمَنْ جُهِلَ حَالُهُ، أَوْ عُلِمَ بِعَدَمِ الْفَهْمِ. وَأَمَّا امْتِنَاعُ التَّقِيِّ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ مِنَ التَّحْدِيثِ عَنِ ابْنِ الْمُقَيَّرِ مَعَ صِحَّةِ سَمَاعِهِ مِنْهُ؛ لِكَوْنِهِ شَكَّ هَلْ نَعِسَ حَالَ السَّمَاعِ أَمْ لَا، فَلِوَرَعِهِ؛ فَقَدْ كَانَ مِنْ الْوَرَعِ بِمَكَانٍ. وَنَحْوُهُ أَنَّهُ قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنَ شَقِيقٍ الْمَرْوَزِيِّ: أَسَمِعْتَ الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ نَهَقَ حِمَارٌ يَوْمًا فَاشْتَبَهَ عَلَيَّ حَدِيثٌ، وَلَمْ أَعْرِفْ تَعْيِينَهُ، فَتَرَكْتُ الْكِتَابَ كُلَّهُ. (وَ) كَذَلِكَ رُدَّ عِنْدَهُمْ ذُو تَسَاهُلٍ فِي حَالَةِ (الْأَدَاءِ) أَيِ: التَّحْدِيثِ (كَ) الْمُؤَدِّي (لَا مِنْ أَصْلٍ) صَحِيحٍ مَعَ كَوْنِهِ هُوَ أَوِ الْقَارِئِ أَوْ بَعْضِ السَّامِعِينَ غَيْرَ حَافِظٍ، حَسْبَمَا يَأْتِي فِي بَابِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَنْ كَانَ يُحَدِّثُ بَعْدَ ذَهَابِ أُصُولِهِ وَاخْتِلَالِ حِفْظِهِ، كَفِعْلِ ابْنِ لَهِيعَةَ فِيمَا حَكَاهُ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، فَقَالَ: جَاءَ قَوْمٌ وَمَعَهُمْ جُزْءٌ فَقَالُوا: سَمِعْنَاهُ مِنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ حَدِيثًا وَاحِدًا مِنْ حَدِيثِهِ، فَأَتَيْتُهُ وَأَعْلَمْتُهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ؟ يَجِيئُونِي بِكِتَابٍ فَيَقُولُونَ: هَذَا مِنْ حَدِيثِكَ، فَأُحَدِّثُهُمْ بِهِ. وَنَحْوُهُ مَا وَقَعَ لِمُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ الْإِسْكَنْدَرَانِيِّ، جَاءَهُ رَجُلٌ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَتْ كُتُبُهُ بِنُسْخَةِ ضِمَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَيَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَيْسَ هُمَا سَمَاعَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَحَدِّثْنِي بِهِمَا، قَالَ: قَدْ ذَهَبَتْ كُتُبِي، وَلَا أُحَدِّثُ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، فَمَا زَالَ حَتَّى خَدَعَهُ، وَلِذَا مَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَدِيمًا قَبْلَ ذِهَابِ كُتُبِهِ كَانَ صَحِيحَ الْحَدِيثِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا. وَمِمَّنْ وُصِفَ بِالتَّسَاهُلِ فِيهِمَا قُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: إِنَّهُ كَانَ يَتَسَاهَلُ فِي السَّمَاعِ وَفِي الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ بِكَذَّابٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّدَّ بِذَلِكَ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ عُرِفَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَقْبُولِينَ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَمَّا انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الثِّقَةِ وَعَدَمِ الْمَجِيءِ بِمَا يُنْكَرُ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ الْمَاضِيَ قَرِيبًا يَشْهَدُ لَهُ، أَوْ لِكَوْنِ التَّسَاهُلِ يَخْتَلِفُ، فَمِنْهُ مَا يَقْدَحُ، وَمِنْهُ مَا لَا يَقْدَحُ. وَكَذَا مَنِ اخْتَلَّ ضَبْطُهُ بِحَيْثُ أَكْثَرَ مِنَ الْقَلْبِ أَوِ الْإِدْرَاجِ، أَوْ رَفَعِ الْمَوْقُوفِ، أَوْ وَصَلِ الْمُرْسَلِ (أَوْ قَبِلَ التَّلْقِينَ) الْبَاطِلَ مِمَّنْ يُلَقِّنُهُ إِيَّاهُ فِي الْحَدِيثِ إِسْنَادًا أَوْ مَتْنًا، وَبَادَرَ إِلَى التَّحْدِيثِ بِذَلِكَ وَلَوْ مَرَّةً؛ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مُجَازَفَتِهِ وَعَدَمِ تَثَبُّتِهِ وَسُقُوطِ الْوُثُوقِ بِالْمُتَّصِفِ بِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ كَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ يَفْعَلُهُ اخْتِبَارًا وَتَجْرِبَةً لِحِفْظِ الرَّاوِي وَضَبْطِهِ وَحِذْقِهِ. قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: لَقَّنْتُ سَلَمَةَ بْنَ عَلْقَمَةَ حَدِيثًا، فَحَدَّثَنِي بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فِيهِ وَقَالَ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُكَذِّبَ صَاحِبَكَ؛ أَيْ: تَعْرِفَ كَذِبَهُ، فَلَقِّنْهُ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُكَذِّبَ صَاحِبَكَ فَلَقِّنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ لِيَرْوِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَمَّنْ لَقَّنَهُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقَدْحِ فِي فَاعِلِهِ. قَالَ عَبْدَانُ الْأَهْوَازِيُّ: كَانَ الْبَغْدَادِيُّونَ، كَعَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ، يُلَقِّنُونَ الْمَشَايِخَ، وَكُنْتُ أَمْنَعُهُمْ. وَكَذَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَانَ فَضْلُكَ يَدُورُ عَلَى أَحَادِيثِ أَبِي مُسْهِرٍ وَغَيْرِهِ، يُلَقِّنُهَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، يَعْنِي: بَعْدَ مَا كَبِرَ، بِحَيْثُ كَانَ كُلَّمَا دُفِعَ إِلَيْهِ قَرَأَهُ، وَكُلَّمَا لُقِّنَ تَلَقَّنَ، وَيُحَدِّثُهُ بِهَا. قَالَ: وَكُنْتُ أَخْشَى أَنْ يَفْتِقَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْقًا، وَلَكِنْ قَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَيَّارٍ: لَمَّا لُمْتُهُ عَلَى قَبُولِ التَّلْقِينِ، قَالَ: أَنَا أَعْرِفُ حَدِيثِي، ثُمَّ قَالَ لِي بَعْدَ سَاعَةٍ: إِنْ كُنْتَ تَشْتَهِي أَنْ تَعْلَمَ فَأَدْخِلْ إِنْسَانًا فِي شَيْءٍ. فَتَفَقَّدْتُ الْأَسَانِيدَ الَّتِي فِيهَا قَلِيلُ اضْطِرَابٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَكَانَ يَمُرُّ فِيهَا، وَكَانَ أَيْضًا يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ. وَمِنِ الْأَوَّلِ مَا وَقَعَ لِحَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، فَإِنَّهُ لَقِيَ هُوَ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ وَغَيْرُهُمَا مُوسَى بْنَ دِينَارٍ الْمَكِّيَّ، فَجَعَلَ حَفْصٌ يَضَعُ لَهُ الْحَدِيثَ فَيَقُولُ: حَدَّثَتْكَ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِكَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: حَدَّثَتْنَي عَائِشَةُ، وَيَقُولُ لَهُ: وَحَدَّثَكَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِهِ، فَيَقُولُ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِهِ، أَوْ يَقُولُ: حَدَّثَكَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ، فَيَقُولُ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ. فَلَمَّا فَرَغَ حَفْصٌ مَدَّ يَدَهُ لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَقْصِدَ، وَلَيْسَتْ لَهُ نَبَاهَةٌ، فَأَخَذَ أَلْوَاحَهُ الَّتِي كَتَبَ فِيهَا وَمَحَاهَا، وَبَيَّنَ لَهُ كَذِبَ مُوسَى. وَمِنَ الثَّانِي مَنْ عَمِدَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ إِلَى مَسَائِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَجَعَلُوا لَهَا أَسَانِيدَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَضَعُوهَا فِي كُتُبِ خَارِجَةَ بْنِ مُصْعَبٍ، فَصَارَ يُحَدِّثُ بِهَا فِي جَمَاعَةٍ مِمَّنْ كَانَ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ. أَفْرَدُوا بِالتَّأْلِيفِ (أَوْ قَدْ وُصِفَا) مِنَ الْأَئِمَّةِ (بِ) رِوَايَةِ (الْمُنْكَرَاتِ) أَوِ الشَّوَاذِّ (كَثْرَةً) أَيْ: حَالَ كَوْنِهَا ذَاتَ كَثْرَةٍ. (أَوْ عُرْفًا بِكَثْرَةٍ السَّهْوِ) وَالْغَلَطِ فِي رِوَايَتِهِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ، حَالَ كَوْنِهِ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ (وَمَا حَدَّثَ مِنْ أَصْلٍ صَحِيحٍ فَهْوَ) أَيِ: الْمُتَّصِفُ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ (رَدٌّ) أَيْ: مَرْدُودٌ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَافَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ يَخْرِمُ الثِّقَةَ بِالرَّاوِي وَضَبْطِهِ. قَالَ شُعْبَةُ: لَا يَجِيئُكَ الْحَدِيثُ الشَّاذُّ إِلَّا مِنَ الرَّجُلِ الشَّاذِّ. وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا: مَنِ الَّذِي نَتْرُكُ الرِّوَايَةَ عَنْهُ؟ قَالَ: إِذَا أَكْثَرَ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنِ الْمَعْرُوفِ بِمَا لَا يُعْرَفُ، وَأَكْثَرَ الْغَلَطَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، فِيمَا حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْهُ: " مَنْ عُرِفَ بِكَثْرَةِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ وَقِلَّةِ الضَّبْطِ رُدَّ حَدِيثُهُ ". قَالَ: وَكَذَا يُرَدُّ خَبَرُ مَنْ عُرِفَ بِالتَّسَاهُلِ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، دُونَ الْمُتَسَاهِلِ فِي حَدِيثِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَمْثَالِهِ، وَمَا لَيْسَ بِحُكْمٍ فِي الدِّينِ، يَعْنِي: لِأَمْنِ الْخَلَلِ فِيهِ، وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ فِيهِ. وَيُخَالِفُهُ قَوْلُ ابْنِ النَّفِيسِ: مَنْ تَشَدَّدَ فِي الْحَدِيثِ وَتَسَاهَلَ فِي غَيْرِهِ فَالْأَصَحُّ أَنَّ رِوَايَتَهُ تُرَدُّ، قَالَ: لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَشَدَّدَ فِي الْحَدِيثِ لِغَرَضٍ، وَإِلَّا لَلَزِمَ التَّشَدُّدُ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْغَرَضُ أَوْ يَحْصُلُ بِدُونِ تَشَدُّدٍ، فَيَكْذِبُ- انْتَهَى. إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّسَاهُلِ فِيمَا هُوَ حُكْمٌ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ النَّفِيسِ بِهَذَا، بَلْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُرُّ إِلَى التَّسَاهُلِ فِي الْحَدِيثِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي تَسَاهُلٍ لَا يُفْضِي إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْعَدَالَةِ، وَلَوْ فِيمَا يَكُونُ بِهِ خَارِمًا لِلْمُرُوءَةِ، فَاعْلَمْهُ. أَمَّا مَنْ لَمْ يَكْثُرْ شُذُوذُهُ وَلَا مَنَاكِيرُهُ، أَوْ كَثُرَ ذَلِكَ مَعَ تَمْيِيزِهِ لَهُ وَبَيَانِهِ، أَوْ حَدَّثَ مَعَ اتِّصَافِهِ بِكَثْرَةِ السَّهْوِ مِنْ أَصْلٍ صَحِيحٍ، بِحَيْثُ زَالَ الْمَحْذُورُ فِي تَحْدِيثِهِ مِنْ حِفْظِهِ فَلَا، وَكَذَا إِذَا حَدَّثَ سَيِّئُ الْحِفْظِ عَنْ شَيْخٍ عُرِفَ فِيهِ بِخُصُوصِهِ بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ، كَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ؛ حَيْثُ قُبِلَ فِي الشَّامِيِّينَ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَوَقَّفَ فِي رَدِ مَنْ كَثُرَتِ الْمَنَاكِيرُ وَشَبَهُهَا فِي حَدِيثِهِ؛ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَمْ تُرَدْ رِوَايَتُهُمْ. وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي رِوَايِاتِهِ مَعَ ظُهُورِ إِلْصَاقِ ذَلِكَ بِهِ لِجَلَالَةِ بَاقِي رِجَالِ السَّنَدِ. (ثُمَّ إِنْ بُيِّنْ لَهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ مُدْغَمَةٍ فِي اللَّامِ؛ أَيِ: الرَّاوِي الَّذِي سَهَا أَوْ غَلَطَ وَلَوْ مَرَّةً (غَلَطُهُ فَمَا رَجَعْ) عَنْ خَطَئِهِ، بَلْ أَصَرَّ عَلَيْهِ (سَقَطَ عِنْدَهُمْ) أَيِ: الْمُحَدِّثِينَ (حَدِيثُهُ)، بَلْ مَرْوِيُّهُ (جُمَعْ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَزْنَ مُضَرَ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي آخِرَ الْمَقَالَةِ. وَ(كَذَا) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ (الْحُمَيْدِيُّ مَعَ ابْنِ حَنْبَلِ) الْإِمَامِ أَحْمَدَ (وَابْنِ الْمُبَارَكِ) عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمْ (رَأَوْا) إِسْقَاطَ حَدِيثِ الْمُتَّصِفِ بِهَذَا (فِي الْعَمَلِ) احْتَجَاجًا وَرِوَايَةً، حَتَّى تَرَكُوا الْكِتَابَةَ عَنْهُ (قَالَ) ابْنُ الصَّلَاحِ: (وَفِيهِ نَظَرٌ)، وَكَأَنَّهُ لِكَوْنِهِ قَدْ لَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ مَا قِيلَ لَهُ، إِمَّا لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِ عِلْمَ الْمُبَيَّنِ لَهُ، وَعَدْمَ أَهْلِيَّتِهِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ: (نَعَمْ، إِذَا كَانَ) عَدَمُ رُجُوعِهِ (عِنَادًا) مَحْضًا (مِنْهُ)، لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ، وَلَا مَطْعَنَ عِنْدَهُ يُبْدِيهِ، فَ(مَا يُنْكَرُ ذَا) أَيِ: الْقَوْلُ بِسُقُوطِ رِوَايَاتِهِ وَعَدَمِ الْكِتَابَةِ عَنْهُ. وَيُرْشِدُ لِذَلِكَ قَوْلُ شُعْبَةَ حِينَ سَأَلَهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَنِ الَّذِي تَتْرُكُ الرِّوَايَةَ عَنْهُ؟ مَا نَصُّهُ: إِذَا تَمَادَى فِي غَلَطٍ مُجْتَمَعٍ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمْ، أَوْ رَجُلٌ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ حِبَّانَ: " مَنْ يُبَيَّنُ لَهُ خَطَؤُهُ، وَعَلِمَ فَلَمْ يَرْجِعْ وَتَمَادَى فِي ذَلِكَ، كَانَ كَذَّابًا بِعِلْمٍ صَحِيحٍ ". قَالَ التَّاجُ التِّبْرِيزِيُّ: لِأَنَّ الْمُعَانِدَ كَالْمُسْتَخِفِّ بِالْحَدِيثِ بِتَرْوِيجِ قَوْلِهِ بِالْبَاطِلِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَنْ جَهْلٍ فَأَوْلَى بِالسُّقُوطِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَّ إِلَى جَهْلِهِ إِنْكَارَهُ الْحَقَّ، وَكَانَ هَذَا فِيمَنْ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ جَاهِلًا مَعَ اعْتِقَادِهِ عِلْمَ مَنْ أَخْبَرَهُ.
321- وَأَعْرَضُوا فِي هَذِهِ الدُّهُورِ *** عَنِ اجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأُمُورِ 322- لِعُسْرِهَا بَلْ يُكْتَفَى بِالْعَاقِلِ *** الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ غَيْرِ الْفَاعِلِ 323- لِلْفِسْقِ ظَاهِرًا وَفِي الضَّبْطِ بِأَنْ *** يَثْبُتَ مَا رَوَى بِخَطٍ مُؤْتَمَنْ 324- وَأَنَّهُ يَرْوِي مِنْ أَصْلٍ وَافَقَا *** لِأَصْلِ شَيْخِهِ كَمَا قَدْ سَبَقَا 325- لِنَحْوِ ذَاكَ الْبَيْهَقِيُّ فَلَقَدْ *** آلَ السَّمَاعُ لِتَسَلْسُلٍ السَّنَدْ
(وَأَعْرَضُوا) أَيِ: الْمُحَدِّثُونَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ (فِي هَذِهِ الدُّهُورِ) الْمُتَأَخِّرَةِ (عَنِ) اعْتِبَارِ (اجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأُمُورِ) الَّتِي شَرَحْتُ فِيمَا مَضَى فِي الرَّاوِي وَضَبْطِهِ، فَلَمْ يَتَقَيَّدُوا بِهَا فِي عَمَلِهِمْ؛ (لِعُسْرِهَا) أَوْ تَعَذُّرِ الْوَفَاءِ بِهَا (بَلِ) اسْتَقَرَّ الْحَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ بَعْضِهَا، وَأَنَّهُ (يُكْتَفَى) فِي الرِّوَايَةِ (بِالْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ غَيْرِ الْفَاعِلِ لِلْفِسْقِ) وَمَا يَخْرِمُ الْمُرُوءَةَ (ظَاهِرًا)، بِحَيْثُ يَكُونُ مَسْتُورَ الْحَالِ. (وَ) يُكْتَفَى (فِي الضَّبْطِ بِأَنْ يَثْبُتَ مَا رَوَى بِخَطِّ) ثِقَةٍ (مُؤْتَمَنٍ)، سَوَاءٌ الشَّيْخُ أَوِ الْقَارِئُ أَوْ بَعْضُ السَّامِعِينَ كَتَبَ عَلَى الْأَصْلِ أَوْ فِي ثَبْتٍ بِيَدِهِ، إِذَا كَانَ الْكَاتِبُ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهَذِهِ الشَّأْنِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الِاعْتِمَادُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الرَّاوِي عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى الثِّقَةِ الْمُفِيدِ لِذَلِكَ (وَأَنَّهُ يَرْوِي) حِينَ يُحَدِّثُ (مِنْ أَصْلٍ) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ (وَافَقَا لِأَصْلِ شَيْخِهِ كَمَا قَدْ سَبَقَا لِنَحْوِ ذَلِكَ) الْحَافِظُ الْكَبِيرُ (الْبَيْهَقِيُّ) فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَوَسُّعَ مَنْ تَوَسَّعَ فِي السَّمَاعِ مِنْ بَعْضِ مُحَدِّثِي زَمَانِهِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَ حَدِيثَهُمْ، وَلَا يُحْسِنُونَ قِرَاءَتَهُ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ مَا يُقْرَأُ عَلَيْهِمْ، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِمْ، وَذَلِكَ لِتَدْوِينِ الْأَحَادِيثِ فِي الْجَوَامِعِ الَّتِي جَمَعَهَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، قَالَ: فَمَنْ جَاءَ الْيَوْمَ بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ لَا يُوجَدُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ أَيْ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَمَنْ جَاءَ بِحَدِيثٍ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ فَالَّذِي يَرْوِيهِ لَا يَنْفَرِدُ بِرِوَايَتِهِ، وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ. وَحِينَئِذٍ (فَلَقَدْ آلَ السَّمَاعُ) الْآنَ (لِتَسَلْسُلِ السَّنَدْ) أَيْ: بَقَاءِ سِلْسِلَتِهِ بِحَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الْكَرَامَةُ الَّتِي خُصَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ شَرَفًا لِنَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي الَّذِي لَمْ يَقَعِ التَّبْدِيلُ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ إِلَّا بِانْقِطَاعِهِ. قُلْتُ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَرَضُ أَوَّلًا مَعْرِفَةَ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ، وَتَفَاوُتِ الْمَقَامَاتِ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ؛ لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إِلَى التَّصْحِيحِ وَالتَّحْسِينِ وَالتَّضْعِيفِ، حَصَلَ التَّشَدُّدُ بِمَجْمُوعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ، وَلَمَّا كَانَ الْغَرَضُ آخِرًا الِاقْتِصَارَ فِي التَّحْصِيلِ عَلَى مُجَرَّدِ وُجُودِ السِّلْسِلَةِ السَّنَدِيَّةِ اكْتَفَوْا بِمَا تَرَى. وَلَكِنَّ ذَاكَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْغَالِبِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَإِلَّا فَقَدْ يُوجَدُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ نَمَطِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ التَّسَاهُلُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فِي الْمُتَقَدِّمِينَ قَلِيلًا. وَقَدْ سَبَقَ الْبَيْهَقِيَّ إِلَى قَوْلِهِ شَيْخُهُ الْحَاكِمُ، وَنَحْوُهُ عَنِ السِّلَفِيِّ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، بَلْ حَصَلَ التَّوَسُّعُ فِيهِ أَيْضًا إِلَى مَا وَرَاءَ هَذَا، كَقِرَاءَةِ غَيْرِ الْمَاهِرِ فِي غَيْرِ أَصْلٍ مُقَابَلٍ، بِحَيْثُ كَانَ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِإِنْكَارِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ.
326- وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ قَدْ هَذَّبَهُ *** ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ إِذْ رَتَّبَهُ 327- وَالشَّيْخُ زَادَ فِيهِمَا وَزِدْتُ *** مَا فِي كَلَامِ أَهْلِهِ وَجَدْتُ 328- فَأَرْفَعُ التَّعْدِيلِ مَا كَرَّرْتَهُ *** كَثِقَةٍ ثَبْتٍ وَلَوْ أَعَدَتَّهُ 329- ثُمَّ يَلِيهِ ثِقَةٌ أَوْ ثَبْتٌ أَوْ *** مُتْقِنٌ أَوْ حُجَّةٌ أَوِ إِذَا عَزَوْا 330- الْحِفْظَ أَوْ ضَبْطًا لِعَدْلٍ وَيَلِي *** لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ صَدُوقٌ وَصِلِ 331- بِذَاكَ مَأْمُونًا خِيارًا وَتَلَا *** مَحَلُّهُ الصِّدْقُ رَوَوْا عَنْهُ إِلَى 332- الصِّدْقِ مَا هُوَ؟ وَكَذَا شَيْخٌ وَسَطْ *** أَوْ وَسَطٌ فَحَسْبُ، أَوْ شَيْخٌ فَقَطْ 333- وَصَالِحُ الْحَدِيثِ أَوْ مُقَارِبُهْ *** جَيِّدُهُ حَسَنُهُ مُقَارَبُهْ 334- صُوَيْلِحٌ صَدُوقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهْ *** أَرْجُو بِأَنْ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ عَرَاهْ 335- وَابْنُ مَعِينٍ قَالَ مَنْ أَقُولُ لَا *** بَأْسَ بِهِ فَثِقَةٌ وَنُقِلَا 336- أَنَّ ابْنَ مَهْدِيٍّ أَجَابَ مَنْ سَأَلْ *** أَثِقَةً كَانَ أَبُو خَلْدَةَ بَلْ 337- كَانَ صَدُوقًا خَيِّرًا مَأْمُونَا *** الثِّقَةُ الثَّوْرِيُّ لَوْ تَعُونَا 338- وَرُبَّمَا وَصَفَ ذَا الصِّدْقِ وُسِمْ *** ضَعْفًا بِصَالِحِ الْحَدِيثِ إِذْ يَسِمْ [مَرَاتِبُ التَّعْدِيلِ]: وَهِيَ سِتٌّ، وَقُدِّمَتْ لِشَرَفِهَا وَلِمُوَازَاةِ الْبَابِ قَبْلَهَا، الَّتِي هِيَ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ تَتِمَّاتِهِ، وَلِذَا أَرْدَفَهُ بِهَا. (وَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ) الْمُنْقَسِمَانِ إِلَى أَعْلَى وَأَدْنَى وَبَيْنَ ذَلِكَ، حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَنْوِيعُهُمْ لِلْأَلْفَاظِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا لَهُمَا اخْتِصَارًا، مَعَ شُمُولِ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ لَهَا (قَدْ هَذَّبَهُ) بِالْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ: هَذَّبَ كُلًّا مِنْهُمَا، حَيْثُ نَقَّى اللَّفْظَ الصَّادِرَ مِنْهُمْ فِيهِمَا (ابْنُ أَبِي حَاتِمِ) [بِغَيْرِ تَنْوِينٍ لِلْوَزْنِ وَبِهِ، مَعَ تَرْكِ هَمْزَةٍ مَا بَعْدَهُ]، هُوَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ الْإِمَامِ أَبِي حَاتِمٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الرَّازِيِّ؛ (إِذْ رَتَّبَهُ) فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ (الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ) فَأَجَادَ وَأَحْسَنَ، كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ. (وَالشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (زَادَ) عَلَيْهِ (فِيهِمَا) أَلْفَاظًا أَخَذَهَا مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ (وَ) كَذَا (زِدْتُ) عَلَى كُلٍّ مِنِ ابْنِ الصَّلَاحِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (مَا فِي كَلَامِ) أَئِمَّةِ (أَهْلِهِ) أَيِ: الْحَدِيثِ (وَجَدْتُ) مِنَ الْأَلْفَاظِ فِي ذَلِكَ، يَعْنِي: بِدُونِ اسْتِقْصَاءٍ، وَإِلَّا فَمَنْ نَظَرَ كُتُبَ الرِّجَالِ، كَكِتَابِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ الْمَذْكُورِ، وَ(الْكَامِلِ) لِابْنِ عَدِيٍّ، وَ(التَّهْذِيبِ) وَغَيْرِهَا، ظَفَرَ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ، وَلَوِ اعْتَنَى بَارِعٌ بِتَتَبُّعِهَا، وَوَضَعَ كُلَّ لَفْظَةٍ بِالْمَرْتَبَةِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا، مَعَ شَرْحِ مَعَانِيهَا لُغَةً وَاصْطِلَاحًا لَكَانَ حَسَنًا. وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا يَلْهَجُ بِذِكْرِ ذَلِكَ، فَمَا تَيَسَّرَ، وَالْوَاقِفُ عَلَى عِبَارَاتِ الْقَوْمِ يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُمْ بِمَا عُرِفَ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَبِقَرَائِنَ تُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ (فَأَرْفَعُ) مَرَاتِبِ (التَّعْدِيلِ) مَا أَتَى، كَمَا قَالَ شَيْخُنَا، بِصِيغَةِ أَفْعَلَ، كَأَنْ يُقَالَ: أَوْثَقُ النَّاسِ، أَوْ أَثْبَتُ النَّاسِ، أَوْ نَحْوُهُمَا، مِثْلُ قَوْلِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ: حَدَّثَنِي أَصْدَقُ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الْبَشَرِ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ؛ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الصِّيغَةُ مِنَ الزِّيَادَةِ. وَأَلْحَقَ بِهَا شَيْخُنَا: " إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي التَّثَبُّتِ "، وَهَلْ يَلْتَحِقُ بِهَا مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي ابْنِ مَهْدِيٍّ: لَا أَعْرِفُ لَهُ نَظِيرًا فِي الدُّنْيَا؟ مُحْتَمَلٌ. ثُمَّ يَلِيهِ مَا هُوَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى عِنْدَ بَعْضِهِمْ، قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ لَا يُسْأَلُ عَنْ مِثْلِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. ثُمَّ يَلِيهِ مَا هُوَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى عِنْدَ الذَّهَبِيِّ فِي مُقَدِّمَةِ مِيزَانِهِ، وَتَبِعَهُ النَّاظِمُ (مَا كَرَّرْتَهُ) [مِنْ أَلْفَاظِ الْمَرْتَبَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ خَاصَّةً، مَعَ تَبَايُنِ الْأَلْفَاظِ (كَثِقَةٍ ثَبْتٍ)، أَوْ ثَبْتٍ حُجَّةٍ (وَلُوْ أَعَدَتَّهُ) أَيِ: اللَّفْظَ الْوَاحِدَ كَثِقَةٍ ثِقَةٍ، [أَوْ ثَبْتٍ ثَبْتٍ]؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ الْحَاصِلَ بِالتَّكْرَارِ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْكَلَامِ الْخَالِي مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا فَمَا زَادَ عَلَى مَرَّتَيْنِ مَثَلًا يَكُونُ أَعْلَى مِنْهَا، كَقَوْلِ ابْنِ سَعْدٍ فِي شُعْبَةَ: ثِقَةٌ، مَأْمُونٌ، ثَبْتٌ، حُجَّةٌ، صَاحِبُ حَدِيثٍ. وَأَكْثَرُ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَكَانَ ثِقَةً ثِقَةً تِسْعَ مَرَّاتٍ، وَكَأَنَّهُ سَكَتَ لِانْقِطَاعِ نَفَسِهِ. (ثُمَّ يَلِيهِ) مَا هُوَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَالثَّانِيَةُ عِنْدَ النَّاظِمِ، وَالرَّابِعَةُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَرَّرْنَاهُ (ثِقَةٌ أَوْ ثَبْتٌ)، بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، الثَّابِتُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْكِتَابِ وَالْحُجَّةِ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ فَمَا يُثْبِتُ فِيهِ الْمُحَدِّثُ مَسْمُوعَهُ مَعَ أَسْمَاءِ الْمُشَارِكِينَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَالْحُجَّةِ عِنْدَ الشَّخْصِ لِسَمَاعِهِ وَسَمَاعِ غَيْرِهِ. وَمِنْ صِيَغِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ كَأَنَّهُ مُصْحَفٌ: (أَوْ) فُلَانٌ (مُتْقِنٌ أَوْ حُجَّةٌ أَوْ إِذَا عَزَوْا) [بِنَقْلِ هَمْزَةِ الثَّلَاثَةِ مَعَ التَّنْوِينِ، وَإِنِ اتَّزَنَ مَعَ تَرْكِهِ بِالْقَطْعِ]؛ أَيْ: نَسَبَ الْأَئِمَّةُ (الْحِفْظَ أَوْ) نَسَبُوا (ضَبْطًا لِعَدْلٍ) كَأَنْ يُقَالَ فِيهِ: حَافِظٌ أَوْ ضَابِطٌ؛ إِذْ مُجَرَّدُ الْوَصْفِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ كَافٍ فِي التَّوْثِيقِ، بَلْ بَيْنَ [الْعَدْلِ وَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ بِدُونِهِمَا، وَيُوجَدَانِ بِدُونِهِ، وَتُوجَدُ الثَّلَاثَةُ]. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ سَأَلَ أَبَا زُرْعَةَ عَنْ رَجُلٍ، فَقَالَ: " حَافِظٌ، فَقَالَ لَهُ: أَهُوَ صَدُوقٌ؟ " وَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الشَّاذَكُونِيُّ مِنَ الْحُفَّاظِ الْكِبَارِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُتَّهَمُ بِشُرْبِ النَّبِيذِ وَبِالْوَضْعِ، حَتَّى قَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ أَضْعَفُ عِنْدِي مِنْ كُلِّ ضَعِيفٍ. وَرُؤِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي النَّوْمِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي، فَقِيلَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: كُنْتُ فِي طَرِيقِ أَصْبَهَانَ، فَأَخَذَنِي مَطَرٌ، وَكَانَ مَعِي كُتُبٌ، وَلَمْ أَكُنْ تَحْتَ سَقْفٍ وَلَا شَيْءٍ، فَانْكَبَبْتُ عَلَى كُتُبِي، حَتَّى أَصْبَحْتُ وَهَدَأَ الْمَطَرُ، فَغَفَرَ اللَّهُ لِي بِذَلِكَ فِي آخَرِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْوَصْفِ بِالْإِتْقَانِ كَذَلِكَ، قِياسًا عَلَى الضَّبْطِ؛ إِذْ هُمَا مُتَقَارِبَانِ، لَا يَزِيدُ الْإِتْقَانُ عَلَى الضَّبْطِ سِوَى إِشْعَارِهِ بِمَزِيدِ الضَّبْطِ، وَصَنِيعُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ يُشْعِرُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا قِيلَ لِلْوَاحِدِ: إِنَّهُ ثِقَةٌ أَوْ مُتْقِنٌ ثَبْتٌ، فَهُوَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ؛ حَيْثُ أَرْدَفَ الْمُتْقِنَ بِثَبْتِ الْمُقْتَضِي لِلْعَدَالَةِ، بِدُونِ " أَوْ " الَّتِي عَبَّرَ بِهَا فِي غَيْرِهَا، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ فِي جَعْلِهِ لَفْظَ ثَبْتٍ مِنْ زِيَادَاتِهِ عَلَى ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ؛ لِأَنَّهَا فِيمَا ظَهَرَ كَمَا قَرَّرْنَاهُ لَيْسَتْ مُسْتَقِلَّةً. وَكَذَا لَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِهِ لَفْظُ الْحُجَّةِ وَمَا بَعْدَهَا، بَلِ الثَّلَاثَةُ مِنْ زِيَادَاتِ ابْنِ الصَّلَاحِ مَعَ تَفَاوُتِهَا، فَكَلَامُ أَبِي دَاوُدَ يَقْتَضِي أَنَّ الْحُجَّةَ أَقْوَى مِنَ الثِّقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْآجُرِّيَّ سَأَلَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ ابْنِ بِنْتِ شُرَحْبِيلَ، فَقَالَ: " ثِقَةٌ يُخْطِئُ، كَمَا يُخْطِئُ النَّاسُ، قَالَ الْآجُرِّيُّ: فَقُلْتُ: هُوَ حُجَّةٌ؟ قَالَ: الْحُجَّةُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ". وَكَذَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ: ثِقَةٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِي مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: ثِقَةٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَفِي أَبِي أُوَيْسٍ: صَدُوقٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَكَأَنَّ هَذِهِ النُّكْتَةَ قَدَّمَهَا الْخَطِيبُ؛ حَيْثُ قَالَ: أَرْفَعُ الْعِبَارَاتِ أَنْ يُقَالَ: حُجَّةٌ أَوْ ثِقَةٌ. ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي أَنَّ الْوَصْفَ بِالضَّبْطِ وَالْحِفْظِ، وَكَذَا الْإِتْقَانُ، لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي عَدْلٍ هُوَ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ ذَاكَ الْإِمَامُ بِهِ، إِذْ لَوْ صَرَّحَ بِهِ كَانَ أَعْلَى، وَلِذَا أَدْرَجَ شَيْخُنَا عَدْلًا ضَابِطًا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَخَالَفَ الذَّهَبِيُّ فَعَدَّ حَافِظًا ثِقَةً مِنْ هَذِهِ، وَأَدْرَجَ فِي أَلْفَاظِهَا إِمَامًا فَقَطْ، وَجَعَلَ ثِقَةً، وَقَوِيَّ الْحَدِيثِ، وَصَحِيحَهُ، وَجَيِّدَ الْمَعْرِفَةِ، مَرْتَبَةً أُخْرَى، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَلَابُدَّ فِي آخِرِهَا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِعَدْلٍ. (وَيَلِي) هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ خَامِسَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: (لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ)، أَوْ لَا بَأْسَ بِهِ، أَوْ (صَدُوقٌ)، وَصْفٌ بِالصِّدْقِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، لَا مَحَلُّهُ الصِّدْقُ، وَإِنْ أَدْرَجَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ ابْنُ الصَّلَاحِ هُنَا؛ فَإِنَّهَا كَمَا سَيَأْتِي تَبَعًا لِلذَّهَبِيِّ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا (وَصِلِ) بِكَسْرِ اللَّامِ مِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الصَّلَاحِ (بِذَاكَ) أَيْ: بِقَوْلِ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَالَّذِينَ بَعْدَهُ (مَأْمُونًا) أَوْ (خِيَارًا) مِنَ الْخَيْرِ ضِدِّ الشَّرِّ. وَمِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِسَيْفِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بِأَنَّهُ مِنْ خِيَارِ الْخَلْقِ، كَمَا وَقَعَ فِي أَصْلِ حَدِيثِهِ مِنْ سُنَنِ النَّسَّائِيِّ. (وَتَلَا) هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ سَادِسَةٌ، وَهِيَ (مَحَلُّهُ الصِّدْقُ)، خِلَافًا لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَتَبَعًا لِلذَّهَبِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَ(رَوَوْا عَنْهُ)، أَوْ رَوَى النَّاسُ عَنْهُ، أَوْ يُرْوَى عَنْهُ، أَوْ (إِلَى الصِّدْقِ مَا هُوَ)، يَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ عَنِ الصِّدْقِ. وَ(كَذَا شَيْخٌ وَسَطْ أَوْ وَسَطٌ فَحَسْبُ) أَيْ: بِدُونِ شَيْخٍ (أَوْ شَيْخٌ فَقَطْ) أَيْ: بِدُونِ وَسَطٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ الصَّلَاحِ تَبَعًا لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمَا الثَّالِثَةُ غَيْرَ الْأَخِيرَةِ. نَعَمْ، زَادَ عَلَيْهِ مِمَّا لَمْ يُرَتِّبْهُ: وَسَطًا، وَرَوَى النَّاسُ عَنْهُ، وَمُقَارَبَ الْحَدِيثِ. (وَ) مِنْهَا أَيْضًا (صَالِحُ الْحَدِيثِ)، وَهِيَ عِنْدَهُمَا الرَّابِعَةُ، بَلْ حَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. قَالَ: كَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ رُبَّمَا جَرَى ذِكْرُ الرَّجُلِ فِيهِ ضَعْفٌ، وَهُوَ صَدُوقٌ، فَيَقُولُ: صَالِحُ الْحَدِيثِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا هِيَ وَالْوَصْفُ بِصَدُوقٍ عِنْدَ ابْنِ مَهْدِيٍّ سَوَاءٌ. وَمِنْهَا: يُعْتَبَرُ بِهِ؛ أَيْ: فِي الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ، أَوْ: يُكْتَبُ حَدِيثُهُ (أَوْ مُقَارِبُهُ) أَيِ: الْحَدِيثِ، مِنَ الْقُرْبِ ضِدِّ الْبُعْدِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ كَمَا ضُبِطَ فِي الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ مِنْ كِتَابِ ابْنِ الصَّلَاحِ الْمَسْمُوعَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَا ضَبَطَهَا النَّوَوِيُّ فِي مُخْتَصَرَيْهِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ حَدِيثَهُ مُقَارِبٌ لِحَدِيثِ غَيْرِهِ مِنَ الثِّقَاتِ، أَوْ (جَيِّدُهُ) أَيِ: الْحَدِيثِ مِنَ الْجَوْدَةِ، أَوْ (حَسَنُهُ)، أَوْ (مُقَارَبُهْ) بِفَتْحِ الرَّاءِ؛ أَيْ: حَدِيثُهُ يُقَارِبُهُ حَدِيثُ غَيْرِهِ، فَهُوَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَسَطٌ لَا يَنْتَهِي إِلَى دَرَجَةِ السُّقُوطِ وَلَا الْجَلَالَةِ، وَهُوَ نَوْعُ مَدْحٍ، وَمِمَّنْ ضَبَطَهَا بِالْوَجْهَيْنِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَابْنُ دِحْيَةَ، وَالْبَطْلَيُوسِيُّ، وَابْنُ رُشَيْدٍ فِي رِحْلَتِهِ. قَالَ: وَمَعْنَاهَا يُقَارِبُ النَّاسَ فِي حَدِيثِهِ وَيُقَارِبُونَهُ؛ أَيْ: لَيْسَ حَدِيثُهُ بِشَاذٍّ وَلَا مُنْكَرٍ. قَالَ: وَمِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِهَذَا اللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى مَا قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي آخِرِ بَابِ: مِنْ فَضَائِلِ الْجِهَادِ، مِنْ جَامِعِهِ، وَقَدْ جَرَى لَهُ ذِكْرُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، فَقَالَ: ضَعَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَسَمِعْتُ مُحَمَّدًا، يَعْنِي الْبُخَارِيَّ، يَقُولُ: هُوَ ثِقَةٌ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ فِي بَابِ مَا جَاءَ مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ: وَالْأَفْرِيقِيُّ- يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ- ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَكْتُبُ عَنْهُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَرَأَيْتُ الْبُخَارِيَّ يُقَوِّي أَمْرَهُ وَيَقُولُ: هُوَ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ، فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ، إِنَّ قَوْلَهُ: مُقَارِبُ الْحَدِيثِ، تَقْوِيَةٌ لِأَمْرِهِ، وَتَفَهَّمُهُ؛ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُهِمِّ الْخَافِي الَّذِي أَوْضَحْنَاهُ- انْتَهَى. وَمِنْهَا: مَا أَقْرَبَ حَدِيثَهُ، أَوْ (صُوَيْلِحٌ أَوْ صَدُوقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهْ) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ، أَوْ (أَرْجُو بِأَنْ) أَيْ: أَنْ (لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ عَرَاهُ) بِمُهْمَلَتَيْنِ؛ أَيْ: غَشِيَهُ. وَقَدْ خَالَفَ الذَّهَبِيُّ فِي أَهْلِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فَجَعَلَ " مَحَلُّهُ الصِّدْقُ "، وَ " حَسَنَ الْحَدِيثِ " وَ " صَالِحَهُ "، وَ " صَدُوقًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ " مَرْتَبَةً، وَ " رَوَى النَّاسُ عَنْهُ "، وَ " شَيْخًا "، وَ " صُوَيْلِحًا "، وَ " مُقَارِبًا "، مَعَ " مَا بِهِ الْمِسْكِينُ بَأْسٌ "، وَ " يُكْتَبُ حَدِيثُهُ "، وَ " مَا عَلِمْتُ فِيهِ جَرْحًا " أُخْرَى. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: مَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا، فَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ دُونَ: لَا بَأْسَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَقَالَ الشَّارِحُ: إِنَّ " أَرْجُو لَا بَأْسَ بِهِ " أَرْفَعُ مِنْ " مَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا "؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ حُصُولُ الرَّجَاءِ بِهِ، وَكَأَنَّهُ بِالنَّظَرِ لِذَلِكَ قَالَ: مَرَاتِبُ التَّعْدِيلِ عَلَى أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ. وَيُحْتَمَلُ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يَكُونَ نَظَرًا لِتَفْرِقَةِ الذَّهَبِيِّ، [وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ " فَطِنٌ كَيِّسٌ "، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمَا صَحِيحٌ، كَمَا لِيَحْيَى الْقَطَّانِ فِي حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ الصَّوَّافِ، فَأَعْلَى]. وَبِالْجُمْلَةِ، فَالضَّابِطُ فِي أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّعْدِيلِ كُلُّ مَا أَشْعَرَ بِالْقُرْبِ مِنْ أَسْهَلَ التَّجْرِيحِ، ثُمَّ إِنَّ الْحُكْمَ فِي أَهْلِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الِاحْتِجَاجُ بِالْأَرْبَعَةِ الْأُولَى مِنْهَا، وَأَمَّا الَّتِي بَعْدَهَا فَإِنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا؛ لِكَوْنِ أَلْفَاظِهَا لَا تُشْعِرُ بِشَرِيطَةِ الضَّبْطِ، بَلْ يُكْتَبُ حَدِيثُهُمْ وَيُخْتَبَرُ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ النَّظَرُ الْمُعَرَّفَ، بِكَوْنِ ذَلِكَ الْمُحَدِّثِ فِي نَفْسِهِ ضَابِطًا مُطْلَقًا، وَاحْتَجْنَا إِلَى حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِ، اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ الْحَدِيثَ وَنَظَرْنَا هَلْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ طَرِيقَةِ الِاعْتِبَارِ فِي مَحَلِّهِ. وَأَمَّا السَّادِسَةُ، فَالْحُكْمُ فِي أَهْلِهَا دُونَ أَهْلِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَفِي بَعْضِهِمْ مَنْ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ لِلِاعْتِبَارِ دُونَ اخْتِبَارِ ضَبْطِهِمْ؛ لِوُضُوحِ أَمْرِهِمْ فِيهِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الذَّهَبِيُّ بِقَوْلِهِ: إِنَّ قَوْلَهُمْ: ثَبْتٌ وَحُجَّةٌ وَإِمَامٌ وَثِقَةٌ وَمُتْقِنٌ، مِنْ عِبَارَاتِ التَّعْدِيلِ الَّتِي لَا نِزَاعَ فِيهَا، وَأَمَّا صَدُوقٌ وَمَا بَعْدَهُ، يَعْنِي مِنْ أَهْلِ هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ اللَّتَيْنِ جَعَلَهُمَا ثَلَاثًا، فَمُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْحُفَّاظِ هَلْ هِيَ تَوْثِيقٌ أَوْ تَلْيِينٌ. وَبِكُلِّ حَالٍ، فَهِيَ مُنْخَفِضَةٌ عَنْ كَمَالِ رُتْبَةِ التَّوْثِيقِ، وَمُرْتَفِعَةٌ عَنْ رُتَبِ التَّجْرِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقَدَّمَ يَقْتَضِي أَنَّ الْوَصْفَ بِثِقَةٍ أَرْفَعُ مِنْ " لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ " (وَابْنُ مَعِينٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ، هُوَ يَحْيَى الْإِمَامُ الْمُقَدَّمُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، سَوَّى بَيْنَهُمَا؛ إِذْ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تَقُولُ: فُلَانٌ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَفُلَانٌ ضَعِيفٌ (قَالَ: مَنْ أَقُولُ) فِيهِ: (لَا بَأْسَ بِهِ فَثِقَةٌ)، وَمَنْ أَقُولُ فِيهِ: ضَعِيفٌ، فَلَيْسَ بِثِقَةٍ لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٍ، يَعْنِي الَّذِي كَانَ فِي أَهْلِ الشَّامِ كَأَبِي حَاتِمٍ فِي أَهْلِ الْمَشْرِقِ: " مَا تَقُولُ فِي عَلِيِّ بْنِ حَوْشَبٍ الْفَزَارِيِّ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَلِمَ لَا تَقُولُ: ثِقَةٌ، وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا؟ قَالَ: قَدْ قُلْتُ لَكَ: إِنَّهُ ثِقَةٌ ". فَالْجَوَابُ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ إِنَّمَا نَسَبَ مَا تَقَدَّمَ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، فَهُوَ عَنْ صَنِيعِهِمْ. قُلْتُ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَنِيعُهُمْ كَذَلِكَ مَا سَأَلَ أَبُو زُرْعَةَ، لَكِنَّ جَوَابَ دُحَيْمٍ مُوَافِقٌ لِابْنِ مَعِينٍ، فَكَأَنَّهُ اخْتِيَارُهُ أَيْضًا. وَأَجَابَ الشَّارِحُ أَيْضًا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا، بَلْ أَشْرَكَهُمَا فِي مُطْلَقِ الثِّقَةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَكَذَا أَيَّدَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُمْ قَدْ يُطْلِقُونَ الْوَصْفَ بِالثِّقَةِ عَلَى مَنْ كَانَ مَقْبُولًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ضَابِطًا، فَقَوْلُ ابْنِ مَعِينٍ هُنَا يَتَمَشَّى عَلَيْهِ. (وَنُقِلَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، مِمَّا يَتَأَيَّدُ بِهِ أَرْجَحِيَّةُ الْوَصْفِ بِالثِّقَةِ (أَنَّ ابْنَ مَهْدِيٍّ)، هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْإِمَامُ الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، حِينَ رَوَى عَنْ أَبِي خَلْدَةَ، بِسُكُونِ اللَّامِ، خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ التَّمِيمِيِّ السَّعْدِيِّ الْبَصْرِيِّ الْخَيَّاطِ التَّابِعِيِّ (أَجَابَ مَنْ سَأَلْ) مِنْهُ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ: (أَثِقَةٌ كَانَ أَبُو خَلْدَةَ) بِقَوْلِهِ: (بَلْ كَانَ صَدُوقًا)، وَكَانَ (خَيِّرًا) أَوْ خِيَارًا، وَكَانَ (مَأْمُونَا الثِّقَةَ) شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ (الثَّوْرِيُّ)، وَرُبَّمَا وُجِدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ: مِسْعَرٌ، بَدَلَ الثَّوْرِيِّ (لَوْ) كُنْتُمْ (تَعُونَا) أَيْ: تَفْهَمُونَ مَرَاتِبَ الرُّوَاةِ، وَمَوَاقِعَ أَلْفَاظِ الْأَئِمَّةِ، مَا سَأَلْتُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَصَرَّحَ بِأَرْجَحِيَّتِهَا عَلَى كُلِّ مِنْ " صَدُوقٍ، وَخَيِّرٍ، وَمَأْمُونٍ "، الَّذِي كُلٌّ مِنْهَا مِنْ مَرْتَبَةِ " لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ". وَلَا يَخْدِشُ فِيهِ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: كَلَامُ ابْنِ مَهْدِيٍّ لَا مَعْنَى لَهُ فِي اخْتِيَارِ الْأَلْفَاظِ؛ إِذْ أَبُو خَلْدَةَ ثِقَةٌ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، يَعْنِي كَمَا صَرَّحَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ؛ حَيْثُ قَالَ: هُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ. وَنَحْوُهُ مَا حَكَاهُ الْمَرْوَذِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ ثِقَةٌ؟ قَالَ: تَدْرِي مَنِ الثِّقَةُ؟ الثِّقَةُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ. هَذَا مَعَ تَوْثِيقِ ابْنِ مَعِينٍ وَجَمَاعَةٍ لَهُ. (وَ) كَذَا (رُبَّمَا) أَيْ: وَفِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ (وَصَفَ) ابْنُ مَهْدِيٍّ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ عَنْهُ كَمَا قَدَّمْتُهُ [(ذَا الصِّدْقِ) الَّذِي (وُسِمْ ضَعْفًا) أَيِ: الصَّدُوقَ مِنَ الرُّوَاةِ الْمَوْسُومَ بِالضَّعْفِ لِسُوءِ حِفْظِهِ وَغَلَطِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (بِصَالِحِ الْحَدِيثِ) الْمُنْحَطِّ عَنْ مَرْتَبَةِ " لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ " (إِذْ يَسِمْ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ؛ أَيْ: حِينَ يُعَلِّمُ عَلَى الرُّوَاةِ بِلَفْظِهِ أَوْ كِتَابِهِ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ مَرَاتِبُهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْهَدُ لِاصْطِلَاحِهِمْ].
339- وَأَسْوَأُ التَّجْرِيحِ كَذَّابٌ يَضَعْ *** يَكْذِبُ وَضَّاعٌ وَدَجَّالٌ وَضَعْ 340- وَبَعْدَهَا مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ *** وَسَاقِطٌ وَهَالِكٌ فَاجْتَنِبِ 341- وَذَاهِبٌ مَتْرُوكٌ أَوْ فِيهِ نَظَرْ *** وَسَكَتُوا عَنْهُ، بِهِ لَا يُعْتَبَرْ 342- وَلَيْسَ بِالثِّقَةِ ثُمَّ رُدَّا *** حَدِيثُهُ كَذَا ضَعِيفٌ جِدَّا 343- وَاهٍ بِمَرَّةٍ وَهُمْ قَدْ طَرَحُوا *** حَدِيثَهُ وَارْمِ بِهِ مُطَّرَحُ 344- لَيْسَ بِشَيْءٍ لَا يُسَاوِي شَيْئَا *** ثُمَّ ضَعِيفٌ وَكَذَا إِنْ جِيئَا 345- بِمُنْكَرِ الْحَدِيثِ أَوْ مُضْطَرِبِهْ *** وَاهٍ وَضَعَّفُوهُ لَا يُحْتَجُّ بِهْ 346- وَبَعْدَهَا فِيهِ مَقَالٌ ضُعِّفْ *** وَفِيهِ ضَعْفٌ تُنْكِرُ وَتَعْرِفْ 347- لَيْسَ بِذَاكَ بِالْمَتِينِ بِالْقَوِي *** بِحُجَّةٍ بِعُمْدَةٍ بِالْمَرْضِي 348- لِلضَّعْفِ مَا هُوَ فِيهِ خُلْفٌ طَعَنُوا *** فِيهِ كَذَا سَيِّئُ حِفْظٍ لَيِّنُ 349- تَكَلَّمُوا فِيهِ وَكُلُّ مَنْ ذُكِرْ *** مِنْ بَعْدِ " شَيْئًا " بِحَدِيثِهِ اعْتُبِرْ وَهِيَ أَيْضًا سِتٌّ، وَسِيقَتْ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي التَّدَلِّي مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى، مَعَ أَنَّ الْعَكْسَ فِي هَذِهِ- كَمَا فَعَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ثُمَّ ابْنُ الصَّلَاحِ- كَانَ أَنْسَبَ؛ لِتَكُونَ مَرَاتِبُ الْقِسْمَيْنِ كُلُّهَا مُنْخَرِطَةً فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ، بِحَيْثُ يَكُونُ أَوَّلُهَا الْأَعْلَى مِنَ التَّعْدِيلِ، وَآخِرُهَا الْأَعْلَى مِنَ التَّجْرِيحِ. (وَأَسْوَأُ التَّجْرِيحِ)، الْوَصْفُ بِمَا دَلَّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِيهِ، كَمَا قَالَ شَيْخُنَا: قَالَ: وَأَصْرَحُ ذَلِكَ التَّعْبِيرُ بِ " أَفْعَلَ " كَأَكْذَبِ النَّاسِ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ: إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي الْوَضْعِ، وَهُوَ رُكْنُ الْكَذِبِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى. ثُمَّ يَلِيهَا (كَذَّابٌ)، أَوْ (يَضَعْ) الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَكْذِبُ، أَوْ (وَضَّاعٌ وَ) كَذَا (دَجَّالٌ)، أَوْ (وَضَعْ) حَدِيثًا، وَآخِرُ هَذِهِ الصِّيَغِ أَسْهَلُهَا، بِخِلَافِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا، وَكَذَا الْأُولَى؛ فَإِنَّ فِيهَا نَوْعَ مُبَالَغَةٍ، لَكِنَّهَا دُونَ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى. أَمَّا الصِّيغَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ فَهُمَا دَالَّتَانِ عُرْفًا عَلَى مُلَازَمَةِ الْوَضْعِ وَالْكَذِبِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُرَتَّبْ أَلْفَاظُ كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنَ الْبَابَيْنِ لِلضَّرُورَةِ. (وَبَعْدَهَا) أَيِ: الْمَرْتَبَةِ، ثَالِثَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا ذَكَرْتُهُ، وَهِيَ فُلَانٌ يَسْرِقُ الْحَدِيثَ؛ فَإِنَّهَا- كَمَا قَالَ الذَّهَبِيُّ- أَهْوَنُ مِنْ وَضْعِهِ وَاخْتِلَافِهِ فِي الْإِثْمِ؛ إِذْ سَرِقَةُ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مُحَدِّثٌ يَنْفَرِدُ بِحَدِيثٍ، فَيَجِيءُ السَّارِقُ وَيَدَّعِي أَنَّهُ سَمِعَهُ أَيْضًا مِنْ شَيْخِ ذَاكَ الْمُحَدِّثِ. قُلْتُ: أَوْ يَكُونُ الْحَدِيثُ عُرِفَ بِرَاوٍ، فَيُضِيفُهُ لِرَاوٍ غَيْرِهِ مِمَّنْ شَارَكَهُ فِي طَبَقَتِهِ، قَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ يَسْرِقُ الْأَجْزَاءَ وَالْكُتُبَ؛ فَإِنَّهَا أَنْحَسُ بِكَثِيرٍ مِنْ سَرِقَةِ الرُّوَاةِ. وَفُلَانٌ (مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ)، أَوْ بِالْوَضْعِ (وَ) فُلَانٌ (سَاقِطٌ وَ) فُلَانٌ (هَالِكٌ فَاجْتَنِبِ) الرِّوَايَةَ، بَلِ الْأَخْذَ عَنْهُمْ (وَ) فُلَانٌ (ذَاهِبٌ)، أَوْ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ، وَفُلَانٌ (مَتْرُوكٌ)، أَوْ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، أَوْ تَرَكُوهُ. قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: سُئِلَ شُعْبَةُ: مَنِ الَّذِي يُتْرَكُ حَدِيثُهُ؟ قَالَ: مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، وَمَنْ يُكْثِرُ الْغَلَطَ، وَمَنْ يُخْطِئُ فِي حَدِيثٍ يُجْمَعُ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَّهِمُ نَفْسَهُ وَيُقِيمُ عَلَى غَلَطِهِ، وَرَجُلٌ رَوَى عَنِ الْمَعْرُوفِينَ بِمَا لَا يَعْرِفُهُ الْمَعْرُوفُونَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ مِنْ جِهَتِهِ: لَا يُتْرَكُ حَدِيثُ الرَّجُلِ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِ حَدِيثِهِ، يَعْنِي بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ: ضَعِيفٌ. وَكَذَا مِنْهَا: مُجْمَعٌ عَلَى تَرْكِهِ، وَهُوَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، أَوْ مُودٍ بِالتَّخْفِيفِ، كَمَا سَيَأْتِي مَعْنَاهُمَا (أَوْ) [بِالنَّقْلِ مَعَ تَنْوِينِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنِ اتَّزَنَ مَعَ تَرْكِهِ بِالْقَطْعِ] (فِيهِ نَظَرْ). وَفُلَانٌ (سَكَتُوا عَنْهُ)، وَكَثِيرًا مَا يُعَبِّرُ الْبُخَارِيُّ بِهَاتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فِيمَنْ تَرَكُوا حَدِيثَهُ، بَلْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّهُمَا أَدْنَى الْمَنَازِلِ عِنْدَهُ وَأَرَدَؤُهَا، [قُلْتُ: لِأَنَّهُ لِوَرَعِهِ قَلَّ أَنْ يَقُولَ: كَذَّابٌ أَوْ وَضَّاعٌ. نَعَمْ، رُبَّمَا يَقُولُ]: كَذَّبَهُ فُلَانٌ، وَرَمَاهُ فُلَانٌ بِالْكَذِبِ، فَعَلَى هَذَا فَإِدْخَالُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْبُخَارِيِّ خَاصَّةً مَعَ تَجَوُّزٍ فِيهِ أَيْضًا، وَإِلَّا فَمَوْضِعُهُمَا مِنْهُ الَّتِي قَبْلَهَا. وَمِنْهَا: فُلَانٌ (بِهِ لَا يُعْتَبَرْ) عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، أَوْ لَا يُعْتَبَرُ بِحَدِيثِهِ (وَ) فُلَانٌ (لَيْسَ بِالثِّقَةِ)، أَوْ لَيْسَ بِثِقَةٍ، أَوْ غَيْرُ ثِقَةٍ وَلَا مَأْمُونٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (ثُمَّ) يَلِيهَا رَابِعَةٌ، وَهِيَ فُلَانٌ (رُدَّا حَدِيثُهُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ؛ يَعْنِي: بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ، أَوْ رَدُّوا حَدِيثَهُ، أَوْ مَرْدُودُ الْحَدِيثِ (وَكَذَا) فُلَانٌ (ضَعِيفٌ جِدًّا)، وَفُلَانٌ (وَاهٍ بِمَرَّةٍ) أَيْ: قَوْلًا وَاحِدًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَكَأَنَّ الْبَاءَ زِيدَتْ، تَأْكِيدًا وَتَالِفٌ (وَ) فُلَانٌ (هُمْ) أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ (قَدْ طَرَحُوا حَدِيثَهُ وَ) فُلَانٌ (ارْمِ بِهِ)، وَفُلَانٌ (مُطَّرَحُ)، أَوْ مُطَّرَحُ الْحَدِيثِ، وَفُلَانٌ لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ؛ أَيْ: لَا احْتِجَاجًا وَلَا اعْتِبَارًا، أَوْ لَا تَحِلُّ كِتَابَةُ حَدِيثِهِ، أَوْ لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: الرِّوَايَةُ عَنْ حَرَامِ بْنِ عُثْمَانَ حَرَامٌ، وَفُلَانٌ (لَيْسَ بِشَيْءٍ)، أَوْ لَا شَيْءَ، أَوْ فُلَانٌ لَا يُسَاوِي فَلْسًا (أَوْ لَا يُسَاوِي شَيْئَا)، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمَا أُدْرِجَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مِنْ " لَيْسَ بِشَيْءٍ " هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إِنَّ ابْنَ مَعِينٍ إِذَا قَالَ فِي الرَّاوِي: لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِ حَدِيثًا كَثِيرًا، هَذَا مَعَ أَنَّ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ قَدْ حَكَى أَنَّ عُثْمَانَ الدَّارِمِيَّ سَأَلَهُ عَنْ أَبِي دِرَاسٍ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَرْوِي حَدِيثًا وَاحِدًا، لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، عَلَى أَنَّا قَدْ رُوِّينَا عَنِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: سَمِعَنِي الشَّافِعِيُّ يَوْمًا وَأَنَا أَقُولُ: فُلَانٌ كَذَّابٌ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ، اكْسُ أَلْفَاظَكَ أَحْسَنَهَا، لَا تَقُلْ: فُلَانٌ كَذَّابٌ، وَلَكِنْ قُلْ: حَدِيثُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا حَيْثُ وُجِدَتْ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ تَكُونُ مِنَ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ. (ثُمَّ) تَلِي هَذِهِ مَرْتَبَةٌ خَامِسَةٌ، وَهِيَ فُلَانٌ (ضَعِيفٌ، وَكَذَا إِنْ جِيئَا) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ مِنْهُمْ فِي وَصْفِ الرُّوَاةِ (بِ) لَفْظِ (مُنْكَرِ الْحَدِيثِ)، أَوْ حَدِيثُهُ مُنْكَرٌ، أَوْ لَهُ مَا يُنْكَرُ، أَوْ مَنَاكِيرُ (أَوْ) بِلَفْظِ (مُضْطَرِبِهِ) أَيِ: الْحَدِيثِ. وَفُلَانٌ (وَاهٍ وَ) فُلَانٌ (ضَعَّفُوهُ)، وَفُلَانٌ (لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَبَعْدَهَا)، وَهِيَ سَادِسَةُ الْمَرَاتِبِ، فُلَانٌ (فِيهِ مَقَالٌ)، أَوْ أَدْنَى مَقَالٍ. وَفُلَانٌ (ضُعِّفْ، وَ) فُلَانٌ (فِيهِ) أَوْ فِي حَدِيثِهِ (ضَعْفٌ). وَفُلَانٌ (تُنْكِرُ) يَعْنِي مَرَّةً (وَتَعْرِفُ) يَعْنِي أُخْرَى، وَفُلَانٌ (لَيْسَ بِذَاكَ)، وَرُبَّمَا قِيلَ: لَيْسَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ، أَوْ لَيْسَ (بِالْمَتِينِ)، أَوْ لَيْسَ (بِالْقَوِيِّ). قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى أَبِي سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيِّ: هُوَ مُتَوَسِّطُ الْحَالِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَفُلَانٌ لَيْسَ (بِحُجَّةٍ)، أَوْ لَيْسَ (بِعُمْدَةٍ)، أَوْ لَيْسَ بِمَأْمُونٍ، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِبَابِ، كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي عَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ أَحَدِ مَنِ اخْتُلِفَ فِي تَوْثِيقِهِ وَتَجْرِيحِهِ. قَالَ شَيْخُنَا فِي جَوَابِهِ عَنْ مَسْأَلَةِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى ذِكْرِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ: وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يُرْوَى حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ؛ لِمَا لَا يَخْفَى مِنَ الْكِنَايَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَنَحْوُهُ: لَيْسَ مِنْ جِمَالِ الْمَحَامِلِ، أَوْ كَمَا قَالَهُ دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ فِي سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ: لَيْسَ مِنْ جَمَّازَاتِ- أَيْ: أَبْعِرَةِ- الْمَحَامِلِ، وَالْجَمَّازُ: الْبَعِيرُ. أَوْ لَيْسَ (بِالْمَرْضِي)، أَوْ لَيْسَ يَحْمَدُونَهُ، أَوْ لَيْسَ بِالْحَافِظِ، أَوْ غَيْرُهُ أَوْثَقُ مِنْهُ، وَفِي حَدِيثِهِ شَيْءٌ، وَفُلَانٌ مَجْهُولٌ، أَوْ فِيهِ جَهَالَةٌ، [أَوْ لَا أَدْرِي مَا هُوَ]، أَوْ لِلضَّعْفِ (مَا هُوَ) يَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ عَنِ الضَّعْفِ، وَفُلَانٌ (فِيهِ خُلْفٌ)، وَفُلَانٌ (طَعَنُوا فِيهِ)، أَوْ مَطْعُونٌ فِيهِ (وَكَذَا) فُلَانٌ نَزَكُوهُ، بِنُونٍ وَزَايٍ؛ أَيْ: طَعَنُوا فِيهِ، فُلَانٌ (سَيِّئُ الْحِفْظِ)، وَفُلَانٌ (لَيِّنٌ)، أَوْ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، أَوْ فِيهِ لِينٌ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِذَا قُلْتُ: فُلَانٌ لَيِّنٌ لَا يَكُونُ سَاقِطًا مَتْرُوكَ الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ مَجْرُوحًا بِشَيْءٍ لَا يَسْقُطُ بِهِ عَنِ الْعَدَالَةِ. وَفُلَانٌ (تَكَلَّمُوا فِيهِ)، وَكَذَا سَكَتُوا عَنْهُ، أَوْ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالْحُكْمُ فِي الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ الْأُوَلِ أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا يُسْتَشْهَدُ بِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِهِ (وَكُلُّ مَنْ ذُكِرْ مِنْ بَعْدِ) لَفْظِ: لَا يُسَاوِي (شَيْئًا)، وَهُوَ مَا عَدَا الْأَرْبَعَ (بِحَدِيثِهِ اعْتُبِرْ) أَيْ: يُخَرَّجُ حَدِيثُهُ لِلِاعْتِبَارِ؛ لِإِشْعَارِ هَذِهِ الصِّيَغِ بِصَلَاحِيَةِ الْمُتَّصِفِ بِهَا لِذَلِكَ، وَعَدَمِ مُنَافَاتِهَا لَهَا. لَكِنْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: كُلُّ مَنْ قُلْتُ فِيهِ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ- يَعْنِي: الَّذِي أُدْرِجَ فِي الْخَامِسَةِ- لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَفِي لَفْظٍ: لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَصَنِيعُ شَيْخِنَا يُشْعِرُ بِالْمَشْيِ عَلَيْهِ؛ حَيْثُ قَالَ: فَقَوْلُهُمْ: مَتْرُوكٌ، أَوْ سَاقِطٌ، أَوْ فَاحِشُ الْغَلَطِ، أَوْ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ أَشَدُّ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَعِيفٌ، أَوْ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، أَوْ فِيهِ مَقَالٌ. وَلَكِنْ يُسَاعِدُ كَوْنَهَا مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا قَوْلُ الشَّارِحِ فِي تَخْرِيجِهِ الْأَكْبَرِ لِلْإِحْيَاءِ: وَكَثِيرًا مَا يُطْلِقُونَ الْمُنْكَرَ عَلَى الرَّاوِي؛ لِكَوْنِهِ رَوَى حَدِيثًا وَاحِدًا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الذَّهَبِيِّ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الزُّبَيْرِيِّ مِنَ الْمِيزَانِ: قَوْلُهُمْ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، لَا يَعْنُونَ بِهِ أَنَّ كُلَّ مَا رَوَاهُ مُنْكَرٌ، بَلْ إِذَا رَوَى الرَّجُلُ جُمْلَةً، وَبَعْضُ ذَلِكَ مَنَاكِيرُ، فَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَقَدْ يُطْلَقُ ذَلِكَ عَلَى الثِّقَةِ إِذَا رَوَى الْمَنَاكِيرَ عَنِ الضُّعَفَاءِ. قَالَ الْحَاكِمُ: قُلْتُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ: سُلَيْمَانُ ابْنُ بِنْتِ شُرَحْبِيلَ؟ قَالَ: ثِقَةٌ، قُلْتُ: أَلَيْسَ عِنْدَهُ مَنَاكِيرُ؟ قَالَ: يُحَدِّثُ بِهَا عَنْ قَوْمٍ ضُعَفَاءَ، فَأَمَّا هُوَ فَثِقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ: قَوْلُهُمْ: رَوَى مَنَاكِيرَ، لَا يَقْتَضِي بِمُجَرَّدِهِ تَرْكَ رِوَايَتِهِ حَتَّى تَكْثُرَ الْمَنَاكِيرُ فِي رِوَايَتِهِ، وَيُنْتَهَى إِلَى أَنْ يُقَالَ فِيهِ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ مُنْكَرَ الْحَدِيثِ وَصْفٌ فِي الرَّجُلِ يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّرْكَ لِحَدِيثِهِ. وَالْعِبَارَةُ الْأُخْرَى لَا تَقْتَضِي الدَّيْمُومَةَ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ: يَرْوِي أَحَادِيثَ مُنْكَرَةً، وَهُوَ مِمَّنِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الصِّيَغَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ سِتٌّ فَقَطْ: كَذَّابٌ، ذَاهِبٌ، مَتْرُوكٌ، ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، لَيْسَ بِقَوِيٍّ، لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَجَعَلَ الثَّلَاثَ الْأُوَلَ مِنْهَا مِنْ أَقْصَى الْمَرَاتِبِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا بَقِيَ مَرْتَبَةً، فَانْحَصَرَتِ الْمَرَاتِبُ عِنْدَهُ فِي أَرْبَعٍ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَزَادَ فِي أَقْصَى الْمَرَاتِبِ أَيْضًا: سَاقِطٌ، تَبَعًا لِلْخَطِيبِ؛ حَيْثُ قَرَنَهَا بِكَذَّابٍ. وَكَذَا زَادَ ابْنُ الصَّلَاحِ مِمَّا لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَرْتَبَةً: لَا شَيْءَ، مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ، لَا يُحْتَجُّ بِهِ، مَجْهُولٌ، فِيهِ ضَعْفٌ، لَيْسَ بِذَاكَ، وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: فِيهِ ضَعْفٌ، أَقَلُّ مِنْ: فُلَانٌ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا الذَّهَبِيُّ، فَالْمَرَاتِبُ عِنْدَهُ سِتٌّ، وَلَكِنْ فِيهَا بَعْضُ مُخَالَفَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ، فَأَرْدَؤُهَا: دَجَّالٌ، وَضَّاعٌ، كَذَّابٌ، ثُمَّ: مُتَّهَمٌ لَيْسَ بِثِقَةٍ وَلَا مَأْمُونٍ، مُجْمَعٌ عَلَى تَرْكِهِ، لَا يَحِلُّ كِتَابَةُ حَدِيثِهِ، وَنَحْوُهَا، ثُمَّ: هَالِكٌ، سَاقِطٌ، مَطْرُوحُ الْحَدِيثِ، مَتْرُوكُهُ، ذَاهِبُهُ، ثُمَّ: مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ، [ضَعِيفٌ جِدًّا، ضَعَّفُوهُ، تَالِفٌ، وَاهٍ، لَيْسَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ: ضَعِيفٌ] ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، مُضْطَرِبُهُ، مُنْكَرُهُ، وَنَحْوُهَا، ثُمَّ: لَهُ مَنَاكِيرُ، لَهُ مَا يُنْكَرُ، فِيهِ ضَعْفٌ، لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، لَيْسَ بِعُمْدَةٍ، لَيْسَ بِالْمَتِينِ، لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لَيْسَ بِذَاكَ، غَيْرُهُ أَوْثَقُ مِنْهُ، وَتَعْرِفُ وَتُنْكِرُ، فِيهِ جَهَالَةٌ، وَلَيِّنٌ، يُكْتَبُ حَدِيثُهُ، وَيُعْتَبَرُ بِهِ، وَنَحْوُهَا مِنَ الْعِبَارَاتِ الصَّادِقَةِ عَلَى مَنْ قَدْ يُحْتَجُّ بِهِ، أَوْ يُتَرَدَّدُ فِيهِ، أَوْ حَدِيثُهُ حَسَنٌ غَيْرُ مُرْتَقٍ إِلَى الصَّحِيحِ. وَمِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُتَأَمَّلَ أَقْوَالُ الْمُزَكِّينَ وَمَخَارِجُهَا، فَقَدْ يَقُولُونَ: فُلَانٌ ثِقَةٌ أَوْ ضَعِيفٌ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَلَا مِمَّنْ يُرَدُّ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ قُرِنَ مَعَهُ عَلَى وَفْقِ مَا وُجِّهَ إِلَى الْقَائِلِ مِنَ السُّؤَالِ، كَأَنْ يُسْأَلَ عَنِ الْفَاضِلِ الْمُتَوَسِّطِ فِي حَدِيثِهِ وَيُقْرَنُ بِالضُّعَفَاءِ، فَيُقَالُ: مَا تَقُولُ فِي فُلَانٍ، وَفُلَانٍ، وَفُلَانٍ؟ فَيَقُولُ: فُلَانٌ ثِقَةٌ، يُرِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَطِ مَنْ قُرِنَ بِهِ، فَإِذَا سُئِلَ عَنْهُ بِمُفْرَدِهِ بَيَّنَ حَالَهُ فِي التَّوَسُّطِ. وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَا نُطِيلُ بِهَا، وَمِنْهَا قَالَ عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ مَعِينٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ كَيْفَ حَدِيثُهُمَا؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، قُلْتُ: هُوَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوْ سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ؟ قَالَ: سَعِيدٌ أَوْثَقُ، وَالْعَلَاءُ ضَعِيفْ. فَهَذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ ابْنُ مَعِينٍ أَنَّ الْعَلَاءَ ضَعِيفٌ مُطْلَقًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ لِسَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ أَكْثَرُ مَا وَرَدَ مِنِ اخْتِلَافِ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، مِمَّنْ وَثَّقَ رَجُلًا فِي وَقْتٍ وَجَرَّحَهُ فِي آخَرَ، فَيَنْبَغِي لِهَذَا حِكَايَةُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ بِنَصِّهَا؛ لِيَتَبَيَّنَ مَا لَعَلَّهُ خَفِيَ مِنْهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ. وَقَدْ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ لِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ، كَمَا هُوَ أَحَدُ احْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْحَسَنِ بْنِ غُفَيْرٍ بِالْمُعْجَمَةِ: إِنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّهُ مَتْرُوكٌ. وَثَانِيهُمَا عَدَمُ تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، بَلْ هُمَا عِنْدَهُ مِنْ مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَا يَنْبَغِي تَأَمُّلُ الصِّيَغِ، فَرُبَّ صِيغَةٍ يَخْتَلِفُ الْأَمْرُ فِيهَا بِالنَّظَرِ إِلَى اخْتِلَافِ ضَبْطِهَا؛ كَقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مُودٍ؛ فَإِنَّهَا اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُخَفِّفُهَا؛ أَيْ: هَالِكٌ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: أَوْدَى فُلَانٌ؛ أَيْ: هَلَكَ، فَهُوَ مُودٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَدِّدُهَا مَعَ الْهَمْزَةِ؛ أَيْ: حَسَنُ الْأَدَاءِ. أَفَادَهُ شَيْخِي فِي تَرْجَمَةِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ مُخْتَصَرِ التَّهْذِيبِ، نَقْلًا عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ الْفَاسِيِّ. وَكَذَا أَثْبَتَ الْوَجْهَيْنِ كَذَلِكَ فِي ضَبْطِهَا ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَأَفَادَ شَيْخُنَا أَيْضًا أَنَّ شَيْخَهُ الشَّارِحَ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِ أَبِي حَاتِمٍ: هُوَ عَلَى يَدِي عَدْلٌ: إِنَّهَا مِنْ أَلْفَاظِ التَّوْثِيقِ، وَكَانَ يَنْطِقُ بِهَا هَكَذَا بِكَسْرِ الدَّالِ الْأُولَى، بِحَيْثُ تَكُونُ اللَّفْظَةُ لِلْوَاحِدِ، وَبِرَفْعِ اللَّامِ وَتَنْوِينِهَا، قَالَ شَيْخُنَا: كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ ظَهَرَ لِي أَنَّهَا عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ أَلْفَاظِ التَّجْرِيحِ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَهُ قَالَ فِي تَرْجَمَةِ جُبَارَةَ بْنِ الْمُغَلِّسِ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: هُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ عَلَى يَدِي عَدْلٌ. ثُمَّ حَكَى أَقْوَالَ الْحُفَّاظِ فِيهِ بِالتَّضْعِيفِ، وَلَمْ يَنْقِلْ عَنْ أَحَدٍ فِيهِ تَوْثِيقًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَا فَهِمْتُ مَعْنَاهَا، وَلَا اتَّجَهَ لِي ضَبْطُهَا، ثُمَّ بَانَ لِي أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ الْهَالِكِ، وَهُوَ تَضْعِيفٌ شَدِيدٌ، فَفِي كِتَابِ إِصْلَاحِ الْمَنْطِقِ لِيَعْقُوبَ بْنِ السِّكِّيتِ، عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: جُزْءُ بْنُ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ وَلَدِهِ الْعَدْلُ، وَكَانَ وَلِيَ شُرْطَةَ تُبَّعٍ، فَكَانَ تُبَّعٌ إِذَا أَرَادَ قَتْلَ رَجُلٍ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَالَ النَّاسُ: وُضِعَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، وَمَعْنَاهُ هَلَكَ. قُلْتُ: وَنَحْوُهُ عِنْدَ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي أَوَائِلِ (أَدَبِ الْكَاتِبِ)، وَزَادَ: ثُمَّ قِيلَ ذَلِكَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْ يُئِسَ مِنْهُ- انْتَهَى. وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْبِهَانِيُّ بِسَنَدٍ لَهُ أَنَّ أَبَا عِيسَى بْنَ الرَّشِيدِ وَطَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ كَانَا يَوْمًا يَتَغَدَّيَانِ مَعَ الْمَأْمُونِ، فَأَخَذَ أَبُو عِيسَى هِنْدَبَاةً فَغَمَسَهَا فِي الْخَلِّ، وَضَرَبَ بِهَا عَيْنَ طَاهِرٍ، فَانْزَعَجَ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِحْدَى عَيْنَيَّ ذَاهِبَةٌ، وَالْأُخْرَى عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ، يُفْعَلُ بِي هَذَا بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَقَالَ الْمَأْمُونُ: يَا أَبَا الطَّيِّبِ، إِنَّهُ وَاللَّهِ يَعْبَثُ مَعِي أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. وَمِنْ ذَلِكَ: مُقَارَبُ الْحَدِيثِ؛ حَيْثُ قِيلَ: إِنَّهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ رَدِيءٌ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ أَمْرُهَا فِي فَتْحٍ وَلَا كَسْرٍ.
350- وَقَبِلُوا مِنْ مُسْلِمٍ تَحَمَّلَا *** فِي كُفْرِهِ كَذَا صَبِيٌّ حَمَلَا 351- ثُمَّ رَوَى بَعْدَ الْبُلُوغِ وَمَنَعْ *** قَوْمٌ هُنَا وَرُدَّ كَالسِّبْطَيْنِ مَعْ 352- إِحْضَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلصِّبْيَانِ ثُمْ *** قَبُولِهِمْ مَا حَدَّثُوا بَعْدَ الْحُلُمْ 353- وَطَلَبُ الْحَدِيثِ فِي الْعِشْرِينِ *** عِنْدَ الزُّبَيْرِيِّ أَحَبُّ حِينِ 354- وَهْوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَهْ *** وَالْعَشْرُ فِي الْبَصْرَةِ كَالْمُأْلُوفَهْ 355- وَفِي الثَّلَاثِينَ لِأَهْلِ الشَّأْمِ *** وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِالْفَهْمِ 356- فَكَتْبُهُ بِالضَّبْطِ، وَالسَّمَاعُ *** حَيْثُ يَصِحُّ وَبِهِ نِزَاعُ 357- فَالْخَمْسُ لِلْجُمْهُورِ ثُمَّ الْحُجَّهْ *** قِصَّةُ مَحْمُودٍ وَعَقْلُ الْمَجَّهْ 358- وَهْوَ ابْنُ خَمْسَةٍ وَقِيلَ أَرْبَعَهْ *** وَلَيْسَ فِيهِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَهْ 359- بَلِ الصَّوَابُ فَهْمُهُ الْخِطَابَا *** مُمَيِّزًا وَرَدُّهُ الْجَوَابَا 360- وَقِيلَ لِابْنِ حَنْبَلٍ فَرَجُلُ *** قَالَ لِخَمْسَ عَشْرَةَ التَّحَمُّلُ 361- يَجُوزُ لَا فِي دُونِهَا فَغَلَّطَهْ *** قَالَ إِذَا عَقَلَهُ وَضَبَطَهْ 362- وَقِيلَ مَنْ بَيْنَ الْحِمَارِ وَالْبَقَرْ *** فَرَّقَ سَامِعٌ، وَمَنْ لَا فَحَضَرْ 363- قَالَ بِهِ الْحَمَّالُ وَابْنُ الْمُقْرِي *** سَمِعَ لِابْنِ أَرْبَعٍ ذِي ذُكْرِ [مَتَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الْحَدِيثِ أَوْ يُسْتَحَبُّ]: أَيْ: هَلْ يَصِحُّ حِينَ الْكُفْرِ وَالصِّبَا، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ، وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ بِبَابِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، وَلَكِنْ كَانَ تَأْخِيرُهُ تِلْوَ ثَانِيَ أَقْسَامِ التَّحَمُّلِ أَنْسَبَ، [كَمَا ذُكِرَ فِي ثَالِثِهَا الْإِجَازَةُ لِلْكَافِرِ وَالطِّفْلِ وَنَحْوِهِمَا]. (وَقَبِلُوا) أَيْ: أَهْلُ هَذَا الشَّأْنِ، الرِّوَايَةَ (مِنْ مُسْلِمٍ) مُسْتَكْمِلِ الشُّرُوطِ (تَحَمَّلَا) الْحَدِيثَ (فِي) حَالٍ (كُفْرِهِ)، ثُمَّ أَدَّاهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ؛ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِمْ كَمَالَ الْأَهْلِيَّةِ حِينَ التَّحَمُّلِ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أُسَارَى بَدْرٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، فَسَمِعَهُ حِينَئِذٍ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، قَالَ جُبَيْرٌ: " وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا وَقَرَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي ". وَفِي لَفْظٍ: " فَأَخَذَنِي مِنْ قِرَاءَتِهِ الْكَرْبُ "، وَفِي آخَرَ: " فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي حِينَ سَمِعْتُ الْقُرْآنَ "، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِ، ثُمَّ أَدَّى هَذِهِ السُّنَّةَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، وَحُمِلَتْ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَنَحْوُ تَحْدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ بِقِصَّةِ هِرَقْلَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. بَلْ عِنْدَنَا لَوْ تَحَمَّلَ الْكَافِرُ وَالصَّبِيُّ شَهَادَةً، ثُمَّ أَدَّيَاهَا بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ قُبِلَ أَيْضًا، سَوَاءٌ سَبَقَ رَدُّهُمَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَمْ لَا. نَعَمْ، الْكَافِرُ الْمُسِرُّ كُفْرَهُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا أَعَادَهَا فِي الْأَصَحِّ؛ كَالْفَاسِقِ غَيْرِ الْمُعْلِنِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا فِي الشَّهَادَةِ فَهُوَ فِي الرِّوَايَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ أَوْسَعُ فِي الْحُكْمِ مِنَ الشَّهَادَةِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ لِغَيْرٍ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا حَفِظُوهَا قَبْلَ إِسْلَامِهِمْ، وَأَدَّوْهَا بَعْدَهُ- انْتَهَى. وَمِنْ هُنَا أَثْبَتَ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي الطِّبَاقِ اسْمَ مَنْ يَتَّفِقُ حُضُورُهُ مَجَالِسَ الْحَدِيثِ مِنَ الْكُفَّارِ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ وَيُؤَدِّيَ مَا سَمِعَهُ، كَمَا وَقَعَ فِي زَمَنِ التَّقِيِّ ابْنِ تَيْمِيَّةَ أَنَّ الرَّئِيسَ الْمُتَطَبِّبَ يُوسُفَ بْنَ عَبْدِ السَّيِّدِ بْنِ الْمُهَذِّبِ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى الْإِسْرَائِيلِيَّ، عُرِفَ بِابْنِ الدَّيَّانِ، سَمِعَ فِي حَالِ يَهُودِيَّتِهِ مَعَ أَبِيهِ مِنَ الشَّمْسِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الصُّورِيِّ أَشْيَاءَ مِنَ الْحَدِيثِ؛ كَجُزْءِ ابْنِ عِتْرَةَ، وَكَتَبَ بَعْضُ الطَّلَبَةِ اسْمَهُ فِي الطَّبَقَةِ فِي جُمْلَةِ السَّامِعِينَ، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِ. وَسُئِلَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَازَهُ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، بَلْ مِمَّنْ أَثْبَتَ اسْمَهُ فِي الطَّبَقَةِ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ، وَيَسَّرَ اللَّهُ أَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدُ، وَسُمِّيَ مُحَمَّدًا، وَأَدَّى فَسَمِعُوا مِنْهُ. وَمِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ الْحَافِظُ الشَّمْسُ الْحُسَيْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْمُؤَلَّفِ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ هُوَ السَّمَاعُ مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ رَآهُ بِدِمَشْقَ، وَمَاتَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ. بَلْ وَمِنَ الْغَرِيبِ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ أَبَا طَالِبٍ، يَعْنِي أَبَاهُ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ ابْنُ أَخِي، وَكَانَ وَاللَّهِ صَدُوقًا، فَذَكَرَ شَيْئًا. وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي طَالِبٍ نَحْوَهُ، وَكِلَاهُمَا عِنْدَ الْخَطِيبِ فِي رِوَايَةِ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ: كُنْتُ بِذِي الْمَجَازِ مَعَ ابْنِ أَخِي، فَأَدْرَكَنِي الْعَطَشُ، فَذَكَرَ كَلَامًا. وَمِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيِّ عَنْ أَبِي طَالِبٍ: سَمِعْتُ ابْنَ أَخِي الْأَمِينَ يَقُولُ: «اشْكُرْ تُرْزَقْ، وَلَا تَكْفُرْ فَتُعَذَّبْ»، وَلَكِنْ كُلُّ هَذَا لَا يَصِحُّ. وَ(كَذَا) يُقْبَلُ عِنْدَهُمْ فَاسِقٌ تَحَمَّلَ فِي حَالِ فِسْقِهِ ثُمَّ زَالَ وَأَدَّى مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَ(صَبِيٌّ حُمِّلَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فِي حَالِ صِغَرِهِ سَمَاعًا أَوْ حُضُورًا (ثَمَّ رَوَى بَعْدَ الْبُلُوغِ)، وَكَذَا قَبِلَهُ عَلَى وَجْهٍ وَصَفَهُ الْبُلْقِينِيُّ بِالشُّذُوذِ، قَدَّمْتُ حِكَايَتَهُ فِي أَوَّلِ فُصُولِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ. (وَ) لَكِنْ قَدْ (مَنَعْ قَوْمٌ) الْقَبُولَ (هُنَا) أَيْ: فِي مَسْأَلَةِ الصَّبِيِّ خَاصَّةً، فَلَمْ يَقْبَلُوا مَنْ تَحَمَّلَ قَبْلَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مَظَنَّةُ عَدَمِ الضَّبْطِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَيْهِ أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُرَاكِشِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ. فَحَكَى ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ تَأْرِيخِهِ أَنَّهُ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنَ الرِّوَايَةِ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَيَقُولُ: مَشَايِخُنَا سَمِعُوا وَهُمْ صِغَارٌ لَا يَفْهَمُونَ، وَكَذَلِكَ مَشَايِخُهُمْ، وَأَنَا لَا أَرَى الرِّوَايَةَ عَمَّنْ هَذِهِ سَبِيلُهُ. وَكَذَا كَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَتَوَقَّفُ فِي تَحْدِيثِ الصَّبِيِّ. فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ قَالَ: قَدِمَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْبَصْرَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُحَدِّثَنِي، فَأَبَى وَقَالَ: أَنْتَ صَبِيٌّ. فَأَتَيْتُ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا إِسْمَاعِيلَ، دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ فَأَبَى أَنْ يُحَدِّثَنِي، فَقَالَ: يَا جَارِيَةُ، هَاتِي خُفِّي وَطَيْلَسَانِي، وَخَرَجَ مَعِي يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِي حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ، فَجَلَسَ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ وَتَحَدَّثَا سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ حَمَّادٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَا تُحَدِّثُ هَذَا الْغُلَامَ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْمَاعِيلَ، هُوَ صَبِيٌّ لَا يَفْقَهُ مَا يَحْمِلُهُ، فَقَالَ لَهُ حَمَّادٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدِّثْهُ فَلَعَلَّهُ وَاللَّهِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ مَنْ يُحَدِّثُ عَنْكَ فِي الدُّنْيَا. فَحَدَّثَهُ، وَكَانَ كَذَلِكَ. وَنَحْوُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نَجْدَةَ الْحَوْطِيِّ قَالَ: لَمَّا رَحَلَ بِي أَبِي إِلَى أَبِي الْمُغِيرَةِ، يَعْنِي عَبْدَ الْقُدُّوسِ بْنَ الْحَجَّاجِ الْخَوْلَانِيَّ الْحِمْصِيَّ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْهُ أَبِي وَأَخِي مِنْ قَبْلِي، فَلَمَّا رَآنِي أَبُو الْمُغِيرَةِ قَالَ لِأَبِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: ابْنِي، قَالَ: وَمَا تُرِيدُ بِهِ؟ قَالَ: يَسْمَعُ مِنْكَ، قَالَ: وَيَفْهَمُ؟ فَقَالَ لِي أَبِي، وَكُنَّا فِي الْمَسْجِدِ: قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالتَّكْبِيرِ وَالِاسْتِفْتَاحِ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ. فَفَعَلْتُ. فَقَالَ لِي أَبُو الْمُغِيرَةِ: أَحْسَنْتَ، ثُمَّ قَالَ لِي أَبِي: حَدِّثْنَا، فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي أَبِي وَأَخِي عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ ابْنَةِ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِيهَا قَالَ: " مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ أَنْ يُحْسِنَ أَدَبَهُ وَتَعْلِيمَهُ، فَإِذَا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فَلَا حَقَّ لَهُ "، وَقَدْ وَجَبَ حَقُّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، فَإِنْ هُوَ أَرْضَاهُ فَلْيَتَّخِذْهُ شَرِيكًا، وَإِنْ لَمْ يُرْضِهِ فَلْيَتَّخِذْهُ عَدُوًّا، فَقَالَ لِي أَبُو الْمُغِيرَةِ: اجْلِسْ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ، ثُمَّ حَدَّثَنِي بِهِ وَقَالَ: قَدْ أَغْنَاكَ اللَّهُ عَنْ أَبِيكَ وَأَخِيكَ، قُلْ: حَدَّثَنِي أَبُو الْمُغِيرَةِ. وَأَعْلَى مِنْ هَذَا أَنَّ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ كَانَ لَا يُحَدِّثُ أَحَدًا حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ عُدُولٌ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: لَقِيتُ شِهَابَ بْنَ خِرَاشٍ وَأَنَا شَابٌّ، فَقَالَ لِي: إِنْ لَمْ تَكُنْ قَدَرِيًّا وَلَا مُرْجِئًا حَدَّثْتُكَ، وَإِلَّا لَمْ أُحَدِّثْكَ. فَقُلْتُ: مَا فِيَّ مِنْ هَذَيْنِ شَيْءٌ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيُّ إِذَا لَحَنَ رَجُلٌ عِنْدَهُ فِي كَلَامِهِ لَمْ يُحَدِّثْهُ. (وَرُدَّ) عَلَى الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ قَبُولِ الصَّبِيِّ بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ عَلَى قَبُولِ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ مِمَّا تَحَمَّلُوهُ فِي حَالِ الصِّغَرِ (كَالسِّبْطَيْنِ)، وَهُمَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ابْنَا ابْنَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ، وَالْعَبَادِلَةِ: ابْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَالسَّائِبِ بْنَ يَزِيدَ، وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَأَنَسٍ وَمَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ، وَعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَيُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ وَعَائِشَةَ وَنَحْوِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا تَحَمَّلُوهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَبَعْدَهُ. (مَعَ إِحْضَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ) خَلَفًا وَسَلَفًا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ (لِلصِّبْيَانِ) مَجَالِسَ الْعِلْمِ (ثُمَّ قَبُولِهِمْ) أَيِ: الْعُلَمَاءِ أَيْضًا، مِنَ الصِّبْيَانِ (مَا حَدَّثُوا) بِهِ مِنْ ذَلِكَ (بَعْدَ الْحُلُمْ) أَيِ: الْبُلُوغِ. وَقَدْ رَأَى أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيَّ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ وَقَدْ طَيَّنُوهُ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ مَوَدَّةٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا مُطَيَّنُ، قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَحْضُرَ مَجْلِسَ السَّمَاعِ. وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَلْقِيبِهِ مُطَيَّنًا. وَمَاتَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَلِلدَّبَرِيِّ سِتُّ سِنِينَ أَوْ سَبْعٌ، ثُمَّ رَوَى عَنْهُ عَامَّةَ كُتُبِهِ وَنَقَلَهَا النَّاسُ عَنْهُ، وَكَذَا سَمِعَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْهَاشِمِيُّ السُّنَنَ لِأَبِي دَاوُدَ مِنْ اللُّؤْلُؤِيِّ وَلَهُ خَمْسُ سِنِينَ، وَاعْتَدَّ النَّاسُ بِسَمَاعِهِ وَحَمَلُوهُ عَنْهُ. وَقَالَ يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ذَهَبْتُ بِابْنِي إِلَى ابْنِ جُرَيْجٍ، وَسِنُّهُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَحَدَّثَهُ. وَكَفَى بِبَعْضِ هَذَا مُتَمَسَّكًا فِي الرَّدِّ فَضْلًا عَنْ مَجْمُوعِهِ، بَلْ قِيلَ: إِنَّ مُجَرَّدَ إِحْضَارِ الْعُلَمَاءِ لِلصِّبْيَانِ يَسْتَلْزِمُ اعْتِدَادَهُمْ بِرِوَايَتِهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لَكِنَّهُ مُتَعَقَّبٌ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْحُضُورُ لِأَجْلِ التَّمْرِينِ وَالْبَرَكَةِ، ثُمَّ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ سَمَاعِ الصَّبِيِّ هُوَ بِالنَّظَرِ لِلصِّحَّةِ سَوَاءٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ (وَ) أَمَّا (طَلَبُ الْحَدِيثِ) بِنَفْسِهِ وَكِتَابَتُهُ، وَكَذَا الرِّحْلَةُ فِيهِ، فَهُوَ (فِي الْعِشْرِينَ) مِنَ السِّنِينِ بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى لُغَةٍ، [حَسْبَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ، مَعَ إِنْكَارِ بَعْضِ مُتَأَخِّرِي النُّحَاةِ لَهَا]، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَاذَا تَبْتَغِي الشُّعَرَاءُ مِنِّيَ *** وَقَدْ جَاوَزْتُ حَدَّ الْأَرْبَعِينِ (عِنْدَ) الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِ بْنِ أَحْمَدَ (الزُّبَيْرِيِّ) بِضَمِّ الزَّاءِ مُصَغَّرًا، الشَّافِعِيِّ (أَحَبُّ حِينِ) مِمَّا قَبْلَهُ، [يَعْنِي أَنَّهُ وَقْتُ الِاسْتِحْبَابِ؛ إِذْ عِبَارَةُ الزُّبَيْرِيِّ: " وَيُسْتَحَبُّ كَتْبُ الْحَدِيثِ فِي الْعِشْرِينَ "، قَالَ]؛ لِأَنَّهَا مُجْتَمَعُ الْعَقْلِ، قَالَ سُفْيَانُ: يَكْمُلُ عَقْلُ الْغُلَامِ لِعِشْرِينَ. وَالْفَهْمُ، كَمَا قَالَ ابْنُ نُفَيْسٍ: فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَكْمَلُ مِمَّا قَبْلَهُ. قَالَ الزُّبَيْرِيُّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَشْتَغِلَ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالْفَرَائِضِ حَتَّى الْوَاجِبَاتِ، سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ: مَنَعَنِي أَبِي مِنْ سَمَاعِ الْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ أَسْتَظْهِرَ الْقُرْآنَ حِفْظًا، فَلَمَّا حَفِظْتُهُ قَالَ لِي: خُذِ الْمَحْفَظَةَ، وَاذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ فَاكْتُبْ عَنْهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: لَمْ يَدَعْنِي أَبِي أَشْتَغِلُ فِي الْحَدِيثِ حَتَّى قَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ الرَّازِيِّ، ثُمَّ كَتَبْتُ الْحَدِيثَ. (وَهُوَ) أَيِ: اسْتِحْبَابُ التَّقَيُّدِ بِهَذَا السِّنِّ فِي الطَّلَبِ (الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلٌ الْكُوفَهْ)، فَقَدْ كَانُوا كَمَا حَكَاهُ مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُمْ لَا يُخْرِجُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ صِغَارًا إِلَّا عِنْدَ اسْتِكْمَالِ عِشْرِينَ سَنَةً. وَنَحْوُهُ حِكَايَةُ مُوسَى بْنِ هَارُونَ الْحَمَّالِ عَنْهُمْ، وَقَالَ عِيَاضٌ: سَمِعْتُ بَعْضَ شُيُوخِ الْعِلْمِ يَقُولُ: الرِّوَايَةُ مِنَ الْعِشْرِينَ، وَالدِّرَايَةُ مِنَ الْأَرْبَعِينَ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ سَعْدُ الْخَيْرِ الْأَنْصَارِيُّ: كَانَ الْأَمْرُ الْمُوَاظَبُ عَلَيْهِ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَمَا يُقَارِبُهُ، لَا يَكْتُبُ الْحَدِيثَ إِلَّا مَنْ جَاوَزَ حَدَّ الْبُلُوغِ، وَصَارَ فِي عِدَادِ مَنْ يَصْلُحُ لِمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُذَاكَرَتِهِمْ. وَسَبَقَهُ الْخَطِيبُ فَقَالَ: قَلَّ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ عَلَى مَا بَلَغَنَا فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ وَقَرِيبًا مِنْهُ إِلَّا مَنْ جَاوَزَ حَدَّ الْبُلُوغِ، وَصَارَ فِي عِدَادِ مَنْ يَصْلُحُ لِمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُذَاكَرَتِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ. (وَ) خَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ، فَ(الْعَشْرِ) مِنَ السِّنِينَ (فِي) أَهْلِ (الْبَصْرَةِ) كَالسُّنَّةِ (الْمَأْلُوفَهْ) لَهُمْ؛ حَيْثُ تَقَيَّدُوا بِهِ (وَ) الطَّلَبُ (فِي) بُلُوغِ (الثَّلَاثِينَ) مِنَ السِّنِينِ مَأْلُوفٌ (لِأَهْلِ الشَّأْمِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ مَقْصُورٌ مَهْمُوزٌ عَلَى أَشْهَرِ اللُّغَاتِ، حَكَاهُ مُوسَى الْحَمَّالُ أَيْضًا عَنْ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَأَعْلَى مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي الْأَحْوَصِ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ الْحَدِيثَ تَعَبَّدَ قَبْلَ ذَلِكَ عِشْرِينَ سَنَةً. فَاجْتَمَعَ فِي الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ فِي ابْتِدَاءِ الطَّلَبِ أَقْوَالٌ. (وَ) الْحَقُّ عَدَمُ التَّقَيُّدِ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، بَلْ (يَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ) أَيْ: طَلَبِ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ (بِالْفَهْمِ) لِمَا يَرْجِعُ إِلَى الضَّبْطِ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَعْرِفُ عِلَلَ الْأَحَادِيثِ وَاخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ، وَلَا أَنْ يَعْقِلَ الْمَعَانِيَ وَاسْتِنْبَاطَهَا؛ إِذْ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْأَدَاءِ فَضْلًا عَنِ التَّحَمُّلِ (فَكَتْبُهُ) [أَيْ: الْحَدِيثَ، بِنَفْسِهِ مُقَيَّدٌ بِالتَّأَهُّلِ] (لِلضَّبْطِ)، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ (السَّمَاعُ) مِنَ الصَّبِيِّ لِلْحَدِيثِ بِ(حَيْثُ) يَعْنِي بِحِينِ يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى فِيهِ سَامِعًا. وَعِبَارَةُ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: " قُلْتُ: وَيَنْبَغِي بَعْدَ أَنْ صَارَ الْمَلْحُوظُ إِبْقَاءَ سِلْسِلَةِ الْإِسْنَادِ أَنْ يُبَكَّرَ بِإِسْمَاعِ الصَّغِيرِ فِي أَوَّلِ زَمَانٍ يَصِحُّ فِيهِ سَمَاعُهُ، وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِكَتَبَةِ الْحَدِيثِ وَتَحْصِيلِهِ- أَيْ: بِالسَّمَاعِ وَنَحْوِهِ- وَضَبْطِهِ وَتَقْيِيدِهِ فَمِنْ حِينِ يَتَأَهَّلُ لِذَلِكَ وَيَسْتَعِدُّ لَهُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ، وَلَيْسَ يَنْحَصِرُ فِي زَمَنٍ مَخْصُوصٍ- انْتَهَى. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِحْبَابِ. وَكَوْنُ التَّقْيِيدِ مُؤَكِّدًا لِلضَّبْطِ بِخِلَافِهِ فِيمَا مَضَى، وَيَتَأَيَّدُ التَّبْكِيرُ بِمَا جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: طَلَبُ الْحَدِيثِ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ، وَلِذَا قَالَ نَفْطَوَيْهِ: أُرَانِي أَنْسَى مَا تَعَلَّمْتُ فِي الْكِبَرِ *** وَلَسْتُ بِنَاسٍ مَا تَعَلَّمْتُ فِي الصِّغَرِ وَلَوْ فُلِقَ الْقَلْبُ الْمُعَلَّمُ فِي الصِّبَا *** لَأُلْفِيَ فِيهِ الْعِلْمُ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ وَيُرْوَى مَعْنَاهُ فِي الْمَرْفُوعِ: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا وَهُوَ شَابٌّ كَانَ كَوَشْيٍ فِي حَجَرٍ، وَمَنْ تَعَلَّمَ بَعْدَمَا يَدْخُلُ فِي السِّنِّ كَانَ كَالْكَاتِبِ عَلَى جَمْهَرِ الْمَاءِ». وَنَحْوُهُ: «مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فِي شَبِيبَتِهِ اخْتَلَطَ الْقُرْآنُ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ»، وَلَا يَصِحُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. (وَبِهِ) أَيْ: وَفِي تَعْيِينِ وَقْتِ السَّمَاعِ (نِزَاعُ) بَيْنَ الْعُلَمَاءِ (فَالْخَمْسُ) مِنَ السِّنِينَ التَّقْيِيدُ بِهِ (لِلْجُمْهُورِ)، وَعَزَاهُ عِيَاضٌ فِي الْإِلْمَاعِ لِأَهْلِ الصَّنْعَةِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّ عَمَلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَيَكْتُبُونَ لِابْنِ خَمْسٍ فَصَاعِدًا " سَمِعَ "، وَلِمَنْ لَمْ يَبْلُغْهَا " حَضَرَ أَوْ أُحْضِرَ ". (ثُمَّ الْحُجَّهْ) لَهُمْ فِي التَّقْيِيدِ بِهَا (قِصَّةُ مَحْمُودٍ)، هُوَ ابْنُ الرَّبِيعِ (وَعَقْلُ الْمَجَّهْ)، وَهِيَ إِرْسَالُ الْمَاءِ مِنَ الْفَمِ، الَّتِي مَجَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ مِنْ دَلْوٍ عَلَى وَجْهِ الْمُدَاعَبَةِ، أَوِ التَّبْرِيكِ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ مَعَ أَوْلَادِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ نَقْلَهُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَةَ السَّمَاعِ، وَكَوْنُهُ سُنَّةً مَقْصُودَةً. (وَهُوَ) أَيْ: مَحْمُودٌ، حِينَئِذٍ (ابْنُ خَمْسَةٍ) مِنَ الْأَعْوَامِ، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودٍ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ: " مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ؟ ". وَأَفَادَ شَيْخُنَا أَنَّهُ لَمْ يَرَ التَّقْيِيدَ بِذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَدِيثِهِ، لَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْجَوَامِعِ وَالْمَسَانِيدِ، إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ خَاصَّةً، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَتَّى قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يُفَضِّلُهُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ سَمِعَ مِنَ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَيْسَ فِي حَدِيثِهِ خَطَأٌ. قَالَ شَيْخُنَا: وَيَشْهَدُ لَهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَالْخَطِيبِ فِي الْكِفَايَةِ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَمِرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ قَالَ: وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ. وَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَيْضًا أَنَّ الْوَاقِعَةَ الَّتِي ضَبَطَهَا كَانَتْ فِي آخِرِ سَنَةٍ مِنْ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُطَابِقُ ذَلِكَ قَوْلَ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، لَكِنْ قَدْ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّهُ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ. (وَ) لَعَلَّ لِذَا (قِيلَ) إِنَّ حِفْظَهُ لِذَلِكَ وَهُوَ ابْنُ (أَرْبَعَهْ) مِنَ الْأَعْوَامِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ؛ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ عَقَلَ الْمَجَّةَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ أَوْ خَمْسٍ، كَمَا أَنَّ لَعَلَّ قَوْلَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا مُسْتَنَدُ الْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ صَرِيحًا فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ بَعْدَ التَّتَبُّعِ التَّامِّ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ؛ لِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْوَاقِدِيِّ يُمْكِنُ حَمْلُهُ إِنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ أَلْغَى الْكَسْرَ وَجَبَرَهُ غَيْرُهُ. وَقَدْ حَكَى السِّلَفِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ صِحَّةَ سَمَاعِ مَنْ بَلَغَ أَرْبَعَ سِنِينَ؛ لِحَدِيثِ مَحْمُودٍ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ خَاصَّةً، أَمَّا ابْنُ الْعَجَمِيِّ فَإِذَا بَلَغَ سَبْعًا، وَقَيَّدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَاكِمِ عَنِ الْقُطَيْعِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي سُئِلَ عَنْ سَمَاعِ الصَّبِيِّ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ ابْنَ عَرَبِيٍّ فَابْنُ سَبْعٍ، وَإِنْ كَانَ ابْنَ عَجَمِيٍّ فَإِلَى أَنْ يَفْهَمَ. وَقَيَّدَهُ بِالسَّبْعِ مُطْلَقًا بَعْضُهُمْ. وَنَحْوُهُ مَا رَوَاهُ السِّلَفِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، أَنَّ الشَّافِعِيَّ سُئِلَ الْإِجَازَةَ لِوَلَدٍ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، فَقَالَ: لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ لِمِثْلِهِ حَتَّى تَمَّ لَهُ سَبْعُ سِنِينَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِجَازَةِ فَفِي السَّمَاعِ أَوْلَى. فَاجْتَمَعَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُسَمَّى فِيهِ الصَّغِيرُ سَامِعًا. (وَ) بِالْجُمْلَةِ (فَلَيْسَ فِيهِ) أَيْ: فِي تَعْيِينِ وَقْتِهِ (سُنَّةٌ) بِعَيْنِهَا (مُتَّبَعَهْ) دَائِمًا؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَمْيِيزِ مَحْمُودٍ أَنَّ تَمْيِيزَ كُلِّ أَحَدٍ كَذَلِكَ، بَلْ قَدْ يَنْقُصُ وَقَدْ يَزِيدُ، وَكَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَلَّا يَعْقِلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَسِنُّهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ عَقَلَ الْمَجَّةَ أَنْ يَعْقِلَ غَيْرَهَا مِمَّا سَمِعَهُ. (بَلِ الصَّوَابُ) الْمُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ سَمَاعِ الصَّغِيرِ قَوْلٌ خَامِسٌ، وَهُوَ: (فَهْمُهُ الْخِطَابَا) حَالَ كَوْنِهِ (مُمَيِّزًا) مَا يُقْصَدُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُهُ (وَرَدُّهُ الْجَوَابَا) الْمُطَابِقَ، سَوَاءٌ كَانَ ابْنَ خَمْسٍ أَوْ أَقَلَّ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ يَعْقِلُ فَهْمَ الْخِطَابِ وَرَدَّ الْجَوَابِ لَمْ يَصِحَّ؛ أَيْ: لَمْ يَكُنْ سَامِعًا، حَتَّى قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَإِنْ كَانَ ابْنَ خَمْسِينَ. وَبِمَا قَيَّدْنَاهُ قَدْ يُشِيرُ إِلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ مِمَّا حَكَى فِيهِ الْقُشَيْرِيُّ الْإِجْمَاعَ بِعَدَمِ قَبُولِ مَنْ لَمْ يَكُنْ حِينَ التَّحَمُّلِ مُمَيِّزًا، مَعَ أَنَّهُ قِيلَ فِي الْمُمَيِّزِ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي. وَكَذَا قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ الْمَبْلَغَ الَّذِي يَفْهَمُ اللَّفْظَ بِسَمَاعِهِ صَحَّ سَمَاعُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ سَمِعَ كَلِمَةً أَدَّاهَا فِي الْحَالِ، ثُمَّ كَانَ مُرَاعِيًا لِمَا يَقُولُهُ مِنْ تَحْدِيثٍ أَوْ لِقِرَاءَةِ الْقَارِئِ صَحَّ سَمَاعُهُ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ. بَلْ عَزَا النَّوَوِيُّ عَدَمَ التَّقْدِيرِ لِلْمُحَقِّقِينَ؛ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ التَّقْيِيدَ بِالْخَمْسِ أَنْكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ، وَقَالُوا: الصَّوَابُ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلُّ صَبِيٍّ بِنَفْسِهِ، فَقَدْ يُمَيِّزُ لِدُونِ خَمْسٍ، وَقَدْ يَتَجَاوَزُ الْخَمْسَ وَلَا يُمَيِّزُ. وَاحْتُجَّ بِضَبْطِ ابْنِ الزُّبَيْرِ تَرَدُّدَ وَالِدِهِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ. قَالَ شَيْخُنَا مُشِيرًا لِانْتِقَادِ الْحَصْرِ فِي سِنِّ ابْنِ الزُّبَيْرِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا وُلِدَ فِي الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ فِي الْأَحْزَابِ: إِنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ- انْتَهَى. نَعَمْ، قَوْلُ الْحَسَنِ: أَذْكُرُ أَنِّي أَخَذْتُ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلْتُهَا فِي فِيَّ، فَنَزَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُعَابِهَا فَجَعَلَهَا فِي التَّمْرِ وَقَالَ: «كِخْ كِخْ»، يُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ دُونَ ذَلِكَ؛ إِذْ مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ لَا يُقَالُ إِلَّا لِلطِّفْلِ الْمُرْضَعِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي التَّقْيِيدِ بِالْخَمْسِ. وَنَحْوُ قِصَّةِ مَحْمُودٍ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالِدِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَنِي وَأَنَا خُمَاسِيٌّ أَوْ سُدَاسِيٌّ فَأَجْلَسَنِي فِي حِجْرِهِ، وَمَسَحَ رَأْسِي، وَدَعَا لِي وَلِذُرِّيَّتِي بِالْبَرَكَةِ. وَحَدَّثَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحَمَّادِيُّ عَنْ جَدِّهِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ بِحَدِيثٍ لَقِنَهُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ. قَالَ ابْنُ رُشَيْدٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِتَحْدِيدِ الْخَمْسِ أَنَّهَا مَظَنَّةٌ لِذَلِكَ، لَا أَنَّ بُلُوغَهَا شَرْطٌ لَابُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ غَيْرِهِ: اعْتَبَرَ الْجُمْهُورُ الْمَظَنَّةَ وَهِيَ الْخَمْسُ، فَأَقَامُوهَا مَقَامَ الْمَئِنَّةِ وَهِيَ التَّمْيِيزُ وَالْإِدْرَاكُ، وَالْأَوْلَى أَنْ تُعْتَبَرَ الْمَظَنَّةُ حَيْثُ لَا يَتَحَقَّقُ الْمَئِنَّةُ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَلَعَلَّ تَحْدِيدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ بِالْخَمْسِ إِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ هَذَا [السِّنَّ] أَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الضَّبْطُ وَعَقْلُ مَا يَسْمَعُ وَحِفْظُهُ. وَإِلَّا فَمَرْجُوعٌ ذَلِكَ لِلْعَادَةِ، وَرُبَّ بَلِيدِ الطَّبْعِ غَبِيِّ الْفِطْرَةِ لَا يَضْبِطُ شَيْئًا فَوْقَ هَذَا السِّنِّ، وَنَبِيلِ الْجِبِلَّةِ وَذَكِيِّ الْقَرِيحَةِ يَعْقِلُ دُونَ هَذَا السِّنِّ. (وَ) مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّمْيِيزُ وَالْفَهْمُ خَاصَّةً دُونَ التَّقْيِيدِ بِسِنٍّ، أَنَّهُ قِيلَ لِلْإِمَامِ (ابْنِ حَنْبَلٍ) أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ مِنْ وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ مَا مَعْنَاهُ: (فَرَجُلٌ)، هُوَ ابْنُ مَعِينٍ (قَالَ لِخَمْسَ عَشْرَةَ) سَنَةً (التَّحَمُّلُ يَجُوزُ لَا فِي دُونِهَا) مُتَمَسِّكًا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ الْبَرَاءَ وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ بَدْرٍ لِصِغَرِهِمَا عَنْ هَذَا السِّنِّ (فَغَلَّطَهْ) الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَ(قَالَ): بِئْسَ الْقَوْلُ هَذَا، بَلْ (إِذَا عَقَلَهُ) أَيِ: الْحَدِيثَ (وَضَبَطَهْ) صَحَّ تَحَمُّلُهُ وَسَمَاعُهُ وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا، كَيْفَ يُعْمَلُ بِوَكِيعٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ سَمِعَ قَبْلَ هَذَا السَّنِّ، قَالَ: وَإِنَّمَا ذَاكَ، يَعْنِي التَّقْيِيدَ بِهَذَا السِّنِّ، فِي الْقِتَالِ، يَعْنِي وَهُوَ يَقْصِدُ فِيهِ مَزِيدَ الْقُوَّةِ وَالْجِدِّ وَالتَّبَصُّرِ فِي الْحَرْبِ، فَكَانَتْ مَظَنَّتُهُ الْبُلُوغَ، وَالسَّمَاعُ يُقْصَدُ فِيهِ الْفَهْمُ، فَكَانَتْ مَظَنَّتُهُ التَّمْيِيزَ. عَلَى أَنَّ قَوْلَ ابْنِ مَعِينٍ هَذَا يُوَجَّهُ بِحَمْلِهِ عَلَى إِرَادَةِ تَحْدِيدِ ابْتِدَاءِ الطَّلَبِ بِنَفْسِهِ، أَمَّا مَنْ سَمِعَ اتِّفَاقًا، أَوِ اعْتَنَى بِهِ فَسَمِعَ وَهُوَ صَغِيرٌ فَلَا، لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ كَمَا أَسْلَفْتُهُ الِاتِّفَاقَ عَلَى قَبُولِ هَذَا. وَمَعَ هَذَا فَاسْتِدْلَالُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ بِابْنِ عُيَيْنَةَ يَقْتَضِي مُخَالَفَتَهُ، وَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ- كَمَا تَقَدَّمَ- الضَّبْطُ لَا السِّنُّ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: إِنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ أَخْرَجَهُ أَبُوهُ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَسَمِعَ مِنَ النَّاسِ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ وَابْنَ أَبِي نُجَيْحٍ فِي الْفِقْهِ، لَيْسَ تَضُمُّهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَقْرَانِهِ إِلَّا وَجَدْتَهُ مُقَدَّمًا. وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: أَتَيْتُ الزُّهْرِيَّ وَفِي أُذْنِي قِرْطٌ وَلِي ذُؤَابَةٌ، فَلَمَّا رَآنِي جَعَلَ يَقُولُ: وَاسِنِينَهُ وَاسِنِينَهُ هَهُنَا هَهُنَا، مَا رَأَيْتُ طَالِبَ عِلْمٍ أَصْغَرَ مِنْ هَذَا. رَوَاهُمَا الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ. بَلْ رَوَى أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ الْهِلَالِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَنَظَرَ إِلَى صَبِيٍّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَكَأَنَّ أَهْلَ الْمَسْجِدِ تَهَاوَنُوا بِهِ لِصِغَرِ سِنِّهِ، فَقَالَ سُفْيَانُ: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُنِي وَلِي عَشْرُ سِنِينَ، طُولِي خَمْسَةُ أَشْبَارٍ، وَوَجْهِي كَالدِّينَارِ، وَأَنَا كَشُعْلَةِ نَارٍ، ثِيَابِي صِغَارٌ، وَأَكْمَامِي قِصَارٌ، وَذَيْلِي بِمِقْدَارٍ، وَنَعْلِي كَآذَانِ الْفَارِ، أَخْتَلِفُ إِلَى عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ مِثْلِ الزُّهْرِيِّ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَجْلِسُ بَيْنَهُمْ كَالْمِسْمَارِ، وَمِحْبَرَتِي كَالْجَوْزَةِ، وَمِقْلَمَتِي كَالْمَوْزَةِ، وَقَلَمِي كَاللَّوْزَةِ، فَإِذَا دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ قَالُوا: أَوْسِعُوا لِلشَّيْخِ الصَّغِيرِ، أَوْسِعُوا لِلشَّيْخِ الصَّغِيرِ. ثُمَّ تَبَسَّمَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَضَحِكَ، وَاتَّصَلَ تَسَلْسُلُهُ بِالضَّحِكِ وَالتَّبَسُّمِ إِلَى الْخَطِيبِ، مَعَ مَقَالٍ فِي السَّنَدِ، لَكِنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ صَحِيحٌ. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ تَهْذِيبِهِ: وَرُوِّينَا عَنْ سَعْدَانَ بْنِ نَصْرٍ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَكَتَبْتُ الْحَدِيثَ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. [ثُمَّ إِنَّ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِتَمْيِيزِ الصَّغِيرِ] أَنْ يَعِدَّ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى عِشْرِينَ، ذَكَرَهُ شَارِحُ التَّنْبِيهِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ مِنْ مَنْقُولِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، أَوْ يُحْسِنُ الْوُضُوءَ أَوِ الِاسْتِنْجَاءَ وَمَا أَشْبَهَهُمَا. أَوْ نَحْوُ مَا اتَّفَقَ لِأَبِي حَنِيفَةَ حِينَ اسْتَأْذَنَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي دِهْلِيزِهِ يَنْتَظِرُ الْإِذْنَ؛ إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِ صَبِيٌّ خُمَاسِيٌّ مِنَ الدَّارِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَسْبِرَ عَقْلَهُ، فَقُلْتُ: أَيْنَ يَضَعُ الْغَرِيبُ الْغَائِطَ مِنْ بَلَدِكُمْ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيَّ مُسْرِعًا فَقَالَ: تَوَقَّ شُطُوطَ الْأَنْهَارِ، وَمَسَاقِطَ الثِّمَارِ، وَأَفْنِيَةَ الْمَسَاجِدِ، وَقَوَارِعَ الطُّرُقِ، وَتَوَارَ خَلْفَ جِدَارٍ، وَأَشْلُ ثِيَابَكَ، وَسَمِّ بِسْمِ اللَّهِ، وَضَعْهُ أَيْنَ شِئْتَ. فَقُلْتُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ. أَوْرَدَهَا ابْنُ النَّجَّارِ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانِ مِنْ تَأْرِيخِهِ. أَوْ بِتَمْيِيزِ الدِّينَارِ مِنَ الدِّرْهَمِ، كَمَا رُوِّينَا فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الرَّعْدِ مِنْ تَأْرِيخِ ابْنِ النَّجَّارِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: وُلِدْتُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ، وَأَوَّلُ مَا سَمِعْتُ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ شِهَابٍ الْعُكْبَرِيِّ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ إِلَى رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ، قَالَ: وَكَانَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ لَا يُثْبِتُونَ سَمَاعِي لِصِغَرِي، وَأَبِي يَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِلَى أَنْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُعْطُونِي دِينَارًا وَدِرْهَمًا، فَإِنْ مَيَّزْتُ بَيْنَهُمَا يُثْبِتُونَ سَمَاعِي حِينَئِذٍ، قَالَ: فَأَعْطُونِي دِينَارًا وَدِرْهَمًا وَقَالُوا: مَيِّزْ بَيْنَهُمَا، فَنَظَرْتُ وَقُلْتُ: أَمَّا الدِّينَارُ فَمَغْرِبِيٌّ، فَاسْتَحْسَنُوا فَهْمِي وَذَكَائِي، وَقَالُوا: أَخْبَرَ بِالْعَيْنِ وَالنَّقْدِ. (وَقِيلَ) أَيْضًا (مَنْ بَيْنَ الْحِمَارِ) أَوِ الدَّابَّةِ (وَالْبَقَرْ فَرَّقَ) فَهُوَ (سَامِعٌ) لِتَمْيِيزِهِ (وَمَنْ لَا) يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا (فَ)يُقَالُ لَهُ (حَضَرْ)، وَلَا يُسَمَّى سَامِعًا (قَالَ بِهِ) يَعْنِي: بِالطَّرَفِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً، مُوسَى بْنَ هَارُونَ (الْحَمَّالُ) بِالْمُهْمَلَةِ، جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَهُ: مَتَى يُسْمَعُ لِلصَّبِيِّ؟ فَقَالَ: إِذَا فَرَّقَ بَيْنَ الْبَقَرَةِ وَالْحِمَارِ، وَفِي لَفْظٍ: إِذَا فَرَّقَ بَيْنَ الدَّابَّةِ وَالْبَقَرَةِ. وَتَبِعَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِاللَّفْظَيْنِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِلطَّرَفِ الثَّانِي أَيْضًا؛ لِلِاكْتِفَاءِ بِمَا فُهِمَ مِنْهُ. وَجَنَحَ لَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ، فَكَانَ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ، وَأَنَا فِي الثَّالِثَةِ سَامِعٌ فَهِمٌ. وَيُحْتَجُّ بِتَمْيِيزِهِ بَيْنَ بَعِيرِهِ الَّذِي كَانَ رَاكِبَهُ حِينَ رَحَلَ بِهِ أَبُوهُ الشَّارِحُ أَوَّلَ مَا طَعَنَ فِي السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ يَشْمَلُهَا فَهْمُ الْخِطَابِ وَرَدُّ الْجَوَابِ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَعْلَى، وَكَأَنَّ لِعَدَمِ التَّسَاوِي أُشِيرَ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ عِبَارَةَ ابْنِ الصَّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: رُوِّينَا عَنْ مُوسَى إِلَى آخِرِهِ، بَلْ صَدَّرَ بِهِ أَوَّلَ زَمَنٍ يُسَمَّى فِيهِ الصَّغِيرُ سَامِعًا، وَحِينَئِذٍ فَكَأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا حِكَايَةُ الْقَوْلِ لَا التَّمْرِيضُ، وَالشَّرْحُ يَشْهَدُ لَهُ. (وَ) الْإِمَامُ الْحَافِظُ مُسْنِدُ أَصْبَهَانَ أَبُو بَكْرِ (بْنُ الْمُقْرِي)، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمِ بْنِ زَاذَانَ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمَائِةٍ (381هـ) عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً؛ لِكَوْنِهِ اعْتَبَرَ التَّمْيِيزَ وَالْفَهْمَ (سَمِعَ) أَيْ: أَفْتَى بِإِثْبَاتِ السَّمَاعِ (لِابْنِ أَرْبَعٍ) مِنَ السِّنِينَ (ذِي ذُكْرِ)، بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ؛ أَيْ: صَاحِبِ حِفْظٍ وَفَهْمٍ. فَرَوَى الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاضِيَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَصْبَهَانِيَّ يَقُولُ: حَفِظْتُ الْقُرْآنَ وَلِي خَمْسُ سِنِينَ، وَحُمِلْتُ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُقْرِئِ لِأَسْمَعَ مِنْهُ وَلِي أَرْبَعُ سِنِينَ، فَقَالَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: لَا تَسْمَعُوا لَهُ فِيمَا قُرِئَ؛ فَإِنَّهُ صَغِيرٌ، فَقَالَ لِي ابْنُ الْمُقْرِئِ: اقْرَأْ سُورَةَ الْكَافِرُونَ، فَقَرَأْتُهَا، فَقَالَ: اقْرَأِ التَّكْوِيرَ، فَقَرَأْتُهَا، فَقَالَ لِي غَيْرُهُ: اقْرَأْ وَالْمُرْسَلَاتِ، فَقَرَأْتُهَا، وَلَمْ أَغْلَطْ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُقْرِئِ: سَمِّعُوا لَهُ وَالْعُهْدَةُ عَلَيَّ. ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ صَاحِبَ الْحَافِظِ أَبِي مَسْعُودٍ أَحْمَدَ بْنِ الْفُرَاتِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: أَتَعَجَّبُ مِنْ إِنْسَانٍ يَقْرَأُ الْمُرْسَلَاتِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ وَلَا يَغْلَطُ فِيهَا. هَذَا مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ أَصْبَهَانَ وَلَمْ تَكُنْ كُتُبُهُ مَعَهُ، فَأَمْلَى كَذَا كَذَا أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الْكُتُبُ إِلَيْهِ قُوبِلَتْ بِمَا أَمْلَى فَلَمْ تَخْتَلِفْ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَمِنْ أَظْرَفِ شَيْءٍ سَمِعْنَاهُ فِي حِفْظِ الصَّغِيرِ مَا أَنَا أَبُو الْعَلَاءِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَرَّاقِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ النَّجَّارُ، ثَنَا الصَّاغَانِيُّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ: رَأَيْتُ صَبِيًّا ابْنَ أَرْبَعِ سِنِينَ حُمِلَ إِلَى الْمَأْمُونِ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَنَظَرَ فِي الرَّأْيِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا جَاعَ يَبْكِي- انْتَهَى. وَفِي صِحَّتِهَا نَظَرٌ. وَأَغْرَبُ مَا ثَبَتَ عِنْدِي فِي ذَلِكَ، أَنَّ الْمُحِبَّ بْنَ الْهَائِمِ حَفِظَ الْقُرْآنَ بِتَمَامِهِ، وَ(الْعُمْدَةَ)، وَجُمْلَةً مِنَ (الْكَافِيَةِ الشَّافِيَةِ)، وَقَدِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ سِنِينَ، وَكَانَ تُذْكَرُ لَهُ الْآيَةُ وَيُسْأَلُ عَمَّا قَبْلَهَا فَيُجِيبُ بِدُونِ تَوَقُّفٍ. وَرُوِّينَا عَنِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي حَفِيدِهِ أَبِي مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ: إِنَّهُ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَيَعْلَمُ الْفَرَائِضَ، وَأَجَابَ فِي مَسْأَلَةٍ أَخْطَأَ فِيهَا بَعْضُ قُضَاتِنَا، كُلُّ ذَلِكَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. وَهَلِ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّمْيِيزِ وَالْفَهْمِ الْقُوَّةُ أَوِ الْفِعْلُ؟ الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ شَيْخَنَا سُئِلَ عَمَّنْ لَا يَعْرِفُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَلِمَةً، فَأَمَرَ بِإِثْبَاتِ سَمَاعِهِ، وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ عَنْ كُلٍّ مِنِ ابْنِ رَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَابْنِ الْمُحِبِّ، بَلْ حَكَى ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ الْمِزِّيَّ كَانَ يَحْضُرُ عِنْدَهُ مَنْ يَفْهَمُ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ، يَعْنِي مِنَ الرِّجَالِ، وَيَكْتُبُ لِلْكُلِّ السَّمَاعَ، وَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا قَوْلَ ابْنِ الصَّلَاحِ الْمَاضِي: " وَمَتَى لَمْ يَكُنْ يَعْقِلُ فَهْمَ الْخِطَابِ وَرَدَّ الْجَوَابِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ ابْنَ خَمْسٍ [بَلِ ابْنَ خَمْسِينَ] "، عَلَى انْتِفَاءِ الْقُوَّةِ مَعَ الْفِعْلِ أَيْضًا. وَبَقِيَ هُنَا شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الذَّهَبِيَّ قَالَ: إِنَّ الصَّغِيرَ إِذَا حَضَرَ [إِنْ أُجِيزَ] لَهُ صَحَّ التَّحَمُّلُ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ، إِلَّا إِنْ كَانَ الْمُسَمِّعُ حَافِظًا، فَيَكُونُ تَقْرِيرُهُ لِكِتَابَةِ اسْمِ الصَّغِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ مِنْهُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ.
|